December 7, 2022December 8, 2022 حتمية الصدفة -ليس خطاً مستقيماً، قال الشيخ رسلان بصوت مرتفع وسط ضجيج فتح الأقفال الحديدة. هل سبق لك أن قرأت رواية تقفز أحداثها بين الماضي والحاضر والمستقبل في آنٍ واحد؟ روبرت مكتفياً بالنظر إليه بريبة، لم يفهم مقصده! رسلان: ليس نهراً يا روبرت، ولا خطاً مستقيماً، لطالما بحثنا في الاتجاه الخاطئ. ابتسم الشيخ بكل ثقة، تفضل ادخل سارا في رواقٍ صغير زُين بالنقوش العثمانية، في آخره بهو استقبال بمقتنياته، أثاثه، كله على الطراز العثماني القديم، زاوية صوفية لا يرتادها إلا نخبةٌ من الرجال، مختارون بعناية. لو أن أمي تعلم أين أنا الآن لجن جنونها، ليس للعثمانيين ولا المسلمين ذنب، ولكن لسببٍ ما قررت أمي أن تلقي اللوم على جميع البشر، ربما هي صادقة، ربما البشرية كلها تتحمل وزر هذه الخطايا، فالمحرقة ليست خطيئة هتلر وحده. روبرت الجد، جده من ناحيةِ أمه، بطلٌ قوميٌ على الأقل في نظر من يعرف قصته، وربما في نظر جميع من سيسمعها يوماً ما من مختلف أديانهم، معتقداتهم، أيدولوجياتهم، ولا يجدر بحفيده أن يدخل معقلاً دينياً لطائفةٍ من دينٍ مختلف! ذُبح في المحرقةِ النازية “الهولوكوست” أكثر من 11 مليون يهودي، قُتلوا في إبادةٍ جماعية على يد ألمانيا النازية وحلفائها خلال الحرب العالمية الثانية في الفترة ما بين 1941 و1945 بمعدل 7500 يهودي في اليوم الواحد، مجزرة سجلها التاريخ من بين عشرات المجازر، ومئات وربما الآلاف التي خانتها ذاكرته. حين يصبح البشر مجردَ أرقام، ويقتل الإنسان أخاه الإنسان، هذا الذي من المفترض أنه أقرب مخلوقات الكون له، في مشهدٍ من مشاهد الإبادة الجماعة، لا لسبب إلا لأنه من عرق آخر، أو دين آخر، أو لونٍ آخر! من أين جاء هذا الشر في بعض بني الإنسان! يهودياً بولندياً واحداً منهم كانت قصته مختلفة عن قصص الملايين الآخرين. ذو ال 12 ربيعاً، وجهه المستدير ملطخ بالطين، غزى الغبار كالشيب شعره البني، عيناه الزرقاوان تذرفان الدموع، واقفاً بجوار أبيه، في معسكر -أوشفينز-بيركناو- للإبادة الجماعة في بولندا المحتلة، واحدٌ من العديد من معسكرات الإبادة التي أنشأها هتلر في بولندا، بيلاروسيا، صربيا، أوكرانيا، كرواتيا، والعديد غيرها، تحت اسم “الحل النهائي”. في طابورٍ طويلٍ من البشر، شبه عرايا، ينتظرون دورهم في الحرق، تقدم منهم ضابطٌ نازي. قال بكل غرور موجهٌ كلامه للأب، أنتم اليهود جبناء، لم أرَ أجبن منكم على وجه الأرض! ها أنت تعلم أنك تمسك يد ابنك تسير به للمحرقة، جميع من يقفون يعلمون، دون أن يحرك أحدكم ساكناً! قاطع دناءة هذه اللحظة ضابطٌ آخر ناداه، “هيلموت” ليس لدينا اليوم بطوله. بقي الأب يمسك يد ابنه، يشد عليها، نظر الابن للأب وكأن ذات السؤال جال في خاطره، عيناه تتوسل، لما لا تحرك ساكناً يا أبي! لما لا تفعل شيئاً لإنقاذي! شد الأب على يده، باكياً في صمت، ينظر حوله، مئات الجنود المدججين بالسلاح، لا مكان للهرب. فهم الابن مراد أبيه، نظرات يأسٍ في عينيه، لو حاولنا الهرب الآن فنحن قتلى لا محالة، سوف تموت يا بني إن حاولت، ولكن في هذا الطابور الطويل، ما زال لدينا الأمل. يسيرون على غير عجلٍ للمذبحة، يدفعهم الجنود نحو الأمام، رائحة الموت في كل مكان، دموع الابن تنهمر، يشد يده أكثر، بقي أمامهم أربعة أشخاص فقط، دورهم قادم، تعلو صرخات البشر ثم سكونٌ مطبق. بندقيةٌ في ظهر الأب تدفعه للأمام، أفلت يد ابنه، لعله يعيش بطريقة أو بأخرى، بندقية أخرى تدفع ابنه معه، صوت هيلموت يصرخ بكلمة واحدة، تقدموا، تقدموا. ولكن هناك من له كلمةٌ أخرى، قال الأمل كلمته، بأكثر الطرق غرابة! صوت الضباط المسؤول خرق ضجيج الموت، أنت أيها الصبي، تعال إلى هنا. ذهب الصبي نحوه، بالكاد استطاع السير، قدماه ترتجفان، أمسكه من يده وجره خلفه مبتعداً عن المذبحة. أرجوك دعهم يطلقون سراح أبي أيضاً، أرجوك، تمنى الصبي لو أن شفتيه المرتجفتين تطيعانه فيصرخ بهما. راقبه الأب مبتعداً بابتسامة مغلوبٌ على أمرها، عاش ابني، ربما لبعض الوقت، نظر الابن خلفه وعينا أبيه تناديه، الأمل يا بني، الأمل، لا تفقد ثقتك به ولن يتخلى عنك. في لحظة من لحظات القدر، أفاق من سكرته بعد ليلةٍ ماجنة، وبين ذراعيه فاتنة بولندية، جعلته ليلة الأمس يشعر وكأنه لأول مرة يعاشر امرأة، مثيرةٌ بجنون، تفعل أشياء لا تخطر على بال الشيطان! نظر حوله، زجاجات الخمر في كل مكان، طاولةٌ محطمة، ليلة الأمس كانت سليمة، ما الذي حل بها، سأل الفتاة. ضحكت على استحياء ونصف عينيها مغلقتين: ألا تتذكر، يا لك من فحل! كنت فوقي على هذه الطاولة، تحطمت أسفلنا وسقطنا أرضا، توسلت إليك أن تتوقف ولم تفعل، وكأن شيئاً لم يحدث. -الأب والابن في منتصف الطابور يتقدمان نحو المحرقة- الفتاة، صعدت فوقه، ثبتت يداه: أريدك الليلة كذلك، كرر كل ما فعلته بالأمس. نظر للطاولة المحطمة: علينا الحصول على طاولةٍ جديدةٍ إذاً. -الأب والابن يتقدمان نحو الموت- علت ضحكاتهم، وبدلال المرأة طلبت، هل تعلم ما أريده؟ -ماذا؟ أطلبي أي شيء، لن أرفض لك طلباً ما دامت هذه الطاولات تتكسر أسفلنا. وبخجلٍ شيطاني، قالت: أريد خادماً، يهودياً، لطالما كرهتهم وأردت إذلالهم، كان أبي موظفاً عند أحد الصرافين اليهود، أهانه كثيراً، ولطالما وددت الانتقام منهم. -هل لديك مواصفات معينة؟ -لا، صبياً، أو فتاة، لا يهم، سأنتقم بكل الأحوال. -الضابط ” هيلموت” يتحدث للأب موجهً له السؤال بغرور، والأب يشد على يد ابنه- قام على مهلٍ، دخل دورة المياه، اغتسل، خرج، ارتدى زيه على مهل، أعدت له فنجان قهوة، أشعل سيجارته، شرب فنجانه، قبل وجنتيها برفق، خرج على مهل، مشى باتجاه طابور المحرقة. -حان دورهم- نادى أول صبي وجده أمامه، تعال، أصبحت خادمَ خليلتي. لو لم يشرب فنجان القهوة، لو لم يشربه على مهل، لو تأخر خطوةً أو تقدم خطوةً، لوصل وكان صبيٌ آخر ينتظر دوره مكاني، ولوقعت عينه على غيري، هكذا قال الجد دوماً، قدرة الإله أنجدتني. لم يتتبع سلسلة الماضي أكثر من هذا، ولكن روبرت الابن، الفيزيائي، لطالما فكر بقصة جده وهو يراقب الغيوم وحركاتها، ويفكر بهذه العشوائية من حولنا، ماذا لو تتبعنا السلسلة لأبعد من فنجانِ القهوة! لو لم يشرب الضابط الخمر، لو لم يتخذ تلك البولندية خليلةً له، لو لم يبقَ جدي في بولندا بعد الاحتلال، لو لم، لو لم، لو لم…. المؤكد أن ما حدث تعلق بماضي جدي وماضي الضابط، أمورٌ حدثت عبر ماضيهما جعلتهم الشخصين المناسبين لهذه اللحظة، ولو تغير أي شيءٍ منها، أي شيء مهما كان بسيطاً، لاختلف المشهد بأكمله. الأمر لا يتعلق بالصدفة، فالصدفة لا وجود لها، كل شيء سببي، مسبب وسبب، سلسلة من الأسباب تأتي بالفعل النهائي (السبب المباشر) ثم النتيجة. ولا بد من وجود المسبب صفر. والذي أرهق ذهنه إذا ما كان هذا الصفر يجب تتبعه منذ ولادتهما، أم هو مرحلة مفصلية في ماضيهما؟ الصدفة؟ ما هي إلا مؤشرٌ لقياس جهلنا وعلمنا، فكلما تمكنا من جميع بياناتٍ أكثر حول ظاهرة ما، زاد علمنا ويقيننا بها، وزادت فرصتنا في توقع سلوكها، وصارت الصدفة على هامشها. وكلما قلت بياناتنا عن الظاهرة، زاد جهلنا بها، وزاد عدم يقيننا حولها، وعجزنا عن توقع سلوكها، وعندما تفاجئنا نتائجها، نغزو السبب لقوةٍ خارقة غير مفهومة أسميناها الصدفة، وأحيانا الحظ. لكن الصدفة حتميةً بحتة، حالِ أي شيءٍ آخر، ففي حال كان للحتمية وجود، فهي جزء منها، وفشلنا في توقع حتميتها، هو السبب وراء اختلاقنا لمفهومها. سار جدي في مسار عبر الماضي، وسار الضابط في مسارٍ مختلف، والتقيا عند نقطة تقاطع، لحظة اختيار الخادم، هذه نقطة مفصلية، ولكن هل عبر الماضي كان هناك نقطة تسببت حتمياً بالوصول لهذه اللحظة، نقطة أو نقاط معينة إن غيرناها تغير المشهد حتمياً، بينما باقي النقاط، فليس بالضرورة أن يتغير المشهد في حال تم تغييرها. شغله هذا، أسماها بفرضية نقاط التقاطع الحتمي، وهي تلك النقاط عبر الماضي في مسارات البشر والتي سوف تأخذهم حتمياً لتقاطع أخر، كالتقاطع بين جده والضابط، يتبدل المشهد حتمياً إن غيرناها، بينما ليس بالضرورة أن يتبدل إن غيرنا باقي النقاط. بالتأكيد ماضي جدي وماضي الضابط هما ما قادهما لهذا التقاطع، ولكن قد لا يكون الماضي كله، قد تكون نقاط التقاطع الحتمي فقط، تعديلٌ بسيط، لعله جوهري، على نظرية الفوضى. رفرفة الفراشة الحتمية. سؤال آخر، هل الفوضى قادرة على إصلاح نفسها؟ ماذا لو غيرنا شيئاً في الماضي؟ هل من الممكن أن تعيد الفوضى توازن الأحداث وترتيبها لنحصل على نفس النتيجة؟! ماذا لو لم يشرب الضابط فنجان القهوة؟ لو لم يغتسل؟ لو أفاق من نومه باكراً؟ ثم وصل لطابور المحرقة وكان جدي ما زال في منتصفه؟ هل كانت العشوائية لتعدل الموازين لتسقط عينا الضابط على منتصف الطابور ويرى جدي كذلك؟ ربما تقبع الإجابة في جوهر نقاط التقاطع الحتمي، وإعادة ضبط الفوضى للمشهد. أفكارٌ من بين عشرات الأفكار المجنونة التي فتحت له نظرية الفوضى آفاقها. ماذا لو لم يحكِ جدي قصته لي؟ ماذا لو مات قبل أن أُولد؟ هل كنت لأتأمل النجوم ليلاً أفكر في ماضيه! هل كنت لأتعلق بالفيزياء؟ هل كنت لأحمل هذه الأفكار؟ ثم هل كنت سأكون واقفاً هنا في هذه الزاوية الصوفية؟ ربما ليس أنا من على أمي أن تغضب منه. في نهاية هذه المسارات، حدث التقاطع، ليس لإنقاذ جدي فقط، بل ليحصل هيلموت على جواب سؤاله، لما أنتم جبناء هكذا؟ سيحصل على الجواب، بدرسٍ لن ينساه طوال ال 60 ثانية التي بقيت من حياته. من رواية اللحظة صفر – اقرأ الرواية من هنا Share this… Copy Facebook Messenger Twitter Pinterest Linkedin Whatsapp Telegram 1Artboard 1 copy 2 Snapchat Skype Print Arabic Random Quotes
Arabic Random Quotes لسنا من هنا December 12, 2022December 18, 2022 لحظات، وعلم جوابَ ما حيره، ساعةً ونصف؟ بالكاد تكفي ….. قطعت الشارع أمامه، ترتدي فستاناً… Read More
Arabic Random Quotes هل فكرت بالحتمية من قبل؟ December 6, 2022December 11, 2022 هل فكرت بالحتمية من قبل؟ أكمل ولم ينتظر سماع الجواب: فيما مضى كان البشر يعتقدون… Read More
Arabic Random Quotes المقارنة December 6, 2022December 8, 2022 أكمل حديثه: المقارنة، موجودة في كل شيءٍ مادي وغير مادي، عندما تقف أمام رف المكتبة… Read More