الفصل الثالث. الدكتاتور

في شمال غرب سوريا، سلسلةٌ جبلية تابعة لريف محافظة اللاذقية، تسمى جبال الأكراد، على مقربةٍ منها باتجاه الحدود التركية نحو الشمال الغربي، تقع سلسلةٌ جبلية أخرى، تسمى جبال التركمان، جميع سكانها من أصولٍ تركمانية، ومن الناحية الأخرى في العمق باتجاه اللاذقية جنوباً، سلسلة ثالثة، تسمى جبال العلوية، نسبة للأقلية من أبناء الطائفة العلوية المتمركزين بها.

وحسب المؤرخين فإن غالبية سكان جبل الأكراد ينحدرون من العرق الكردي، جاءوا إلى هذه السلسلة الجبلية في هجراتٍ متعددة وعلى مراحل، كان أولها في عهد القائد الإسلامي الشهير صلاح الدين الأيوبي (1138 – 1193 م)، وأكثرها كان في أبان الحروب العثمانية الفارسية، التي انطلقت شرارتها في القرن الخامس عشر، حيث هاجرت الكثير من العشائر الكردية إلى جبال ريف اللاذقية، في شمال غرب سوريا، واستوطنوا هذه السلسلة الجبلية، التي أخذت اسمها منهم.

مرت الأعوام، وسقطت الدولة العثمانية، وجاء الاحتلال الفرنسي لسوريا في عام 1920م، سجلت بها جبال الأكراد بصمتها التي لن تفارق الاحتلال طوال بقائه، على سفاحها، وفي سهولها، وخلف كل شجرة وحجر، لقي الفرنسيين الويلات على يد سكانها، وقبل مغادرة الاحتلال في عام 1946م، ترك لهم بدوره بصمته الخاصة، على شكل طائفةٍ من الأقلية، سوريون كذلك، يسمون بالطائفة العلوية، دعمهم طوال فترة الاحتلال ورعاهم، وسمنهم، ورعوه بدورهم، استوطنوا منذ القدم سلسلة جبال مقابل سلسلة جبال الأكراد مباشرة تسمى مجازاً جبال العلوية.

تعامل سادتهم مع المحتل، باسم الطائفة، ولهذا وسموا بالخيانة والغدر، منبوذين، وجد بهم الاحتلال ضالته، وفي كل مصاب أصابه في جبال الأكراد، تألمت عليه جبال العلوية، وتمنت فناء تلك السلسلة مقابلهم وسكانها.

-ما الذي يجعل طائفة من أبناء بلد، عاشوا فيها طوال ألف عام، وعاش أجدادهم آلاف قبلها، أن يفعلوا هذا؟! سؤالٌ عميق، وجوابه ليس أقلَ عمقٍ منه-

جاءت سلسلة الانقلابات العسكرية في سوريا عقب خروج الاحتلال عسكرياً، والتي انتهت به بقبضة حافظ الأسد، المنحدر من الطائفة العلوية، في عام 1970م.

حكم سوريا بالحديد والنار، وبات أبناء الطائفة، يملكون سوريا بمن عليها، يقتلون، يعذبون، يسرقون، ينهبون، ويهمشون من يريدون ويقربون من يريدون، وبالطبع جاء وقت الثأر القديم للاحتلال، اليوم هو اليوم الموعود، نال سكان جبال الأكراد نصيبهم من الظلم والاضطهاد، وحصة الأسد من الحديد والنار، ورغم كل هذا، بقيت عصيةً عليهم، مهما حاولوا اختراقها ديموغرافياً، من خلال شراء الأراضي، تهجير السكان الأصليين، إلا أن أهلها اخذوا العهد والوعد على أنفسهم، لا تبيعوهم شبراً، لا تفرطوا بشجرة، ولا تخرجوا من قرية، باقون مهما كان الثمن.

عشرةُ أعوامٍ غيرَ كافية لاستعباد شعب بأكمله.

ففي عام 1980، قامت ثورة شعبية ضد الدكتاتور، انتهت بمقتل 30 ألف مدني على الأقل في مدينة حماة السورية، معقل هذه الثورة، على يد النظام العلوي في سوريا بقيادة حافظ الأسد، واعتقال وإخفاء الآلاف، من مختلف أنحاء البلاد.

من بين المعتقلين شابٌ في التاسعة والعشرون من عمره، اختفى ببساطة، ولم يعلم أحدٌ أين اخذوه، ولم يتجرأ أحدٌ على السؤال عنه، فكل من بلغت به الوقاحة حد السؤال، نال ذات المصير.

علت صرخات أطفال الحي، ونساؤه، والملثمون يقتحمون عليه المنزل، وعلت صيحات الزوجة في الغرفة المجاورة، ليس خوفاً عليه فقط، بل لألمٍ حل بها.

حاول المقاومة، يعلم مصيره المحتوم، ولكنه يحاول،

لا أمل له بالهرب، ولكنه يحاول تأخير موعد خروجه من الباب، عله يسمع، عله يسمع ذلك الصوت.

سحلوه على الأرض، انهالوا عليه بكعب البندقية، شقوا جبينه، ورأسه، تلطخ وجهه بالدماء، تشبثت أصابعه بطرف الباب، أذنه هناك في الغرفة حيث تعلو صيحات زوجته، تعجلي يا امرأة، أرجوك تعجلي، فلن تتسنى لي فرصةٌ أخرى، أريد أن أسمع صوته لمرة واحدة، للمرة الأولى، والأخيرة.

لحظاتٌ تلتها، وكأنها دهراً من الشوق والانتظار، ثم أغمض عينيه، أطرب مسمعه بصوت بكاءه، اختلطت الدموع بالدماء على وجنتيه.

-ابني، أهلاً بك يا حبيب القلب، سأذهب أنا وستبقى أنت.

ركضت أخته تسابق الزمن إليه، تنادي بأعلى صوتها

-يا عبد الله، إنه غلام

دموعه تنهمر، أحس بغصة الموت وفرحة الحياة في آنٍ واحد،

نادى بأعلى صوته وهم يضعوه في صندوق السيارة

-وليد، أسموه وليد، لعل الله يجعل في ولادته، مولد فجرٍ جديد