الفصل الثامن عشر. المزرعة

-قلت لك يا عزيزي، لا تتعجل بالحكم عليه

-صدقت يا يوسف، ليس هذا فقط، فلن تصدق ما فعل!

-ماذا؟

-حسب التقرير الذي قدمه، فقد بات الفتى صديقه، وبات ينظر له وكأنه اخاه الأكبر

-رائع يا هارون، هذا سوف يساعدنا كثيراً حين يأتي الوقت المناسب

-نعم، لقد طلبتُ من رئيس الفرع، أن يحثه على الحفاظ على علاقته مع وليد، بل ويوطدها أكثر

في فرع المخابرات الجوية، استقبله رئيس الفرع بكل فخرٍ واعتزاز، فقد نجح في مهمته على أكملِ وجه، وجد الفتى وأعاده بلا ضوضاء، بل وزاد عليها شيئاً جديداً، علاقته هذه معه لم تكن في الحسبان، أثبتت قدرته على الابتكار، واقتناص أفضلِ الفرص المتاحة أمامه.

في نفس اليوم وصلت نسخة من تقريرِ باسل إلى المنزل الأمن في حي أبو رمانة، وفي مساءِ ذلك اليوم، نسخةً مترجمةً منه إلى اللغة الفارسية، مرفقةً بتقريرٍ مفصل عن أخرِ التطورات في المزرعة، كانتا على إحدى مكاتب وزارة الاستخبارات والأمن القومي لجمهورية إيران الإسلامية.

بدأت الفكرة، بعد ثورة الثمانينيات في سوريا، لم يكن النظام ليتحمل دولياً تبعات مجزرةٍ أخرى يتورط بها بشكلٍ مباشر بلا أسبابٍ مقنعة، وكون المجازر هي الحل الوحيد أمامه لقمع أي ثورةٍ قد تأتي لاحقاً، وكون الشعب السوري غالبيته من الطائفة السنية، فكان لابد من إيجاد الأسباب والذرائع التي تجعله يقتل الأطفال والرجال، والنساء، ويهدم البيوت فوق قاطنيها، إن استدعى الأمر.

في الحقيقة هذه الخطة ليست ماركةً مسجلة للنظام السوري، بل استخدمها البشر في بعض الأحيان عبر تاريخهم الحديث، عبر إيجاد عدوٍ مشترك مع العدو الأصلي، من بني جلدته، ولعله استوحاها من النظام المصري في ظل حكم جمال عبد الناصر، الذي استخدم التيار الإسلامي في مصر لحشد الشارع المتدين خلفه، للانقلاب على الملك فاروق، ثم انقلب على الإسلاميين الذين ساعدوه في الوصول إلى الحكم، ورمى بهم في السجون.

هي فكرةٌ تقليديةٌ، سهلة، عدو عدوي صديقي،

هكذا ببساطة، ولكن مع بعضِ التعديلات.

وبما أن الشعب السوري غالبيته من أبناء الطائفة المسلمة السنية، فلا بد من إيجاد عدوٍ لهم من بني جلدتهم، حتى إن كان هذا العدو أكثرَ عداوةً للنظام وللطائفة العلوية.

عدوٌ من ذات المنبت الفكري والبيئي والعقائدي لغالبية الشعب، لديه القدرة على مخاطبتهم باللغة التي يفهمونها، والتأثير على أكبر نسبة منهم من خلال التستر بستارهم.

ومن هذا العدو؟! نعم من غيرهم، من يكفرون الحجر والشجر قبل البشر، أصحاب الفكر التكفيري، المنحرفون دينياً، الذين لا يتورعون لحظةً في قتل السنة قبل العلوية، وهم بالأصل قلةٌ قليلة من أبناء السنة، منحرفون عن مذهبهم، ولكنهم خرجوا من صلبهم، حالهم كحال كل مذهبٍ في هذه الدنيا لا بد من وجود المنحرفين فيه.

فقام بعمليةِ اختراقٍ واسعةً للمساجد، وجلسات العلم الشرعي، من خلال عملاءٍ له، وفي كثير من الأحيان من خلال مشايخِ الدين الذين كانوا يدرسون الطلاب أصولَ دينهم، وقاموا بدورهم برفعِ تقارير مفصلة عن كل من يرونه قابلٌ للانحراف الديني، نحو الغلو فيه.

ثم قام بمراقبتهم، ومن يرى فيه مشروعاً تكفيرياً من الطراز الذي يريده، قام باعتقاله، وإرساله إلى المزرعة.

وبطبيعة الحال، فكل المعتقلين على إثر ثورة حماة، حاول معهم، فمن سلك درب التكفير، نجا بنفسه، ومن لم يسلك، غالباً تخلص منه، ليوفر عناءَ رعايته، ومن لم يكن عليهم تهمٌ جادة، أو تم اعتقاله تعسفياً، أفرج عن بعضم، افراج ذر به الرماد في العيون، ولعب به دور دولةِ القانون، التي تعتقل، وتحاكم، ثم تفرج عمن تنتهي مدة حكمه، فهي لا تظلمُ أحداً.

وفي حين كان السياسيون السوريون، والمثقفون، وحتى الإسلاميون التقليديون، يلاقون أصنافَ العذاب، ويحرمون من الورقة والقلم في سجن صيدنايا، فقد كان التكفيرين يحصلون على امتيازات لا يمكن تخيلها، فحتى تلك الكتب الممنوع تداولها في الشارع، كان السجانون يدخلونها لهم إلى العنابر، ليتعلموا، ويتثقفوا أصول وفنون التكفير، وكان من بينهم أستاذة لهم، يعطونهم المحاضرات، والدورات، في هذا الفن.

والمسجون لن يخرج من السجن مهما طال الزمن، إلا إن تحقق شرطان اساسيان، الأول أن يكون قد تشبع هذا الفكر وأصبح مسخاً بشرياً، والثاني أن تكون هناك حاجةَ لإخراجه.

في جميع التقارير والمراسلات السرية حول ما يحدث في هذه العنابر، تمت الإشارة إليها بالاسم الرمزي “المزرعة”.

عمليةٌ مشتركة، بإشرافٍ مباشرٍ من النظام السوري، والإيراني.

مزرعةٌ بكل ما تحمل الكلمة من معنى، يتم بها زراعةُ الأفكار في عقول الضحايا، وحقنها بالكراهية وبالعقائد التكفيرية، وفق دراساتٍ نفسية وخططٍ مدروسةٍ بعناية لكل معتقل، ففريق من الإخصائيين النفسيين يراقب طوال الوقت.

وكما تقوم بتسميد أي منتجات زراعية، فقد كانوا يسمدوهم، فحتى الطعام الذي يأكلون والشراب الذي يشربون مضافٌ له أنواعٌ خاصة من المنشطات، تزيد من قدرتهم على الحفظ، وتزيد جرعات الشر في داخلهم، والتي كانوا يفرغونها على شكل نهم لا ينضب، للرغبة بالمزيد من الشذوذ الفكري.

بعضهم كفّر الشعب السوري بأكمله، وبعضهم كفر بعضهم البعض، بل إن بعضهم كفر نفسه إن فكر في فكرة يراها كفرية، ثم عاد وتاب ورجع عن كفره، فانقسموا على أنفسهم إلى جماعاتٍ داخل العنابر نفسها، هذه الجماعة تكفر هذه، وهذه تتحالف مع هذه.

أصبحت هذه العنابر بمثابة مملكةٍ صغيرة، صورةٍ مصغرة عن الوضع الذي سيكون عليه أي مجتمع يتم إطلاقهم فيه، ودعمهم بالتمويل المناسب واللازم ليتسلطوا على أهله.

فالوافدون الجدد، هم الشعب الجاهل في هذه المملكة، بعضهم تبعهم بالإقناع، والبعض بالترهيب، والبعض بالترغيب في سبيل الإغراءات والامتيازات.

واحدٌ منه مميزٌ جداً، مشروعُ قائد، بلا قلبٍ، ولا رحمة، جلادٌ أكثر من حافظ الأسد إن تسنت له الفرصة، أو هذا هو الحال الذي أصبح عليه، بعد سنواتٍ من غسيل الدماغ والتشبع بالفكر المنحرف.

شكل لنفسه جماعةً، وأعلن نفسه أميراً عليها.

بلغ فيه الأمر أن كفر الشعب السوري بأكمله، وجميع الجماعات الأخرى، من هم في السجن وخارجه،

بل حتى أنه كفر جماعته نفسها عندما خالفته رأياً، ثم إستتابهم جميعاً واحداً تلو الآخر.

جلد من خالفه، عذبه، قمعه، حرمه من حقوقه، أصبح في السجن ملكاً بين الجميع، وزعيمُ الطائفة التكفيرية الأقوى، والاشرس، في سجن صيدنايا.

مسجونٌ منذ ستة عشر عاماً، وفي لحظةٍ ما قد يضطرون لإخراجه إلى الشارع، ولكن كيف يمكنهم السيطرة عليه عندها؟! كيف يمكنهم ابتزازه أو الضغط عليه؟

الأدوات كثيرة ولكن أهمها، ولداً تركه خلفه يوم مولده،

لم يسمع صوته إلا مرةً واحدة، قبل أن يختفي إلى الأبد.