March 16, 2023March 16, 2023 الفصل الثاني عشر. استراتيجية التوريط لم يعتد عقل باسل على هذه الألغاز، وضع سماعة الهاتف على الطاولة بعد أن استأذن صاحبه وتركه ينتظره على الخط، ذهب ليعد لنفسه فنجان قهوة. بعد أن عاد نظر إلى السماعة طويلاً، تأملها بعينيين حذرتين، عض شفتيه، ثم أمسكها: هيا يا حيدر، وضح لي. -اسمع يا صديقي، في مرحلةٍ ما، كان الناس يقفون بطابورٍ طويلٍ أمامه حتى يأتيهم الدور لشرب كأس التمر، فالرجل ماهرٌ في عمله، ولكنه كان مشغولاً بين عملين، الأول صب التمر، والثاني أخذ المال وعده وإعادة الفكة، تلك الأمور الحسابية التي تتعلق بثمن العصير. ثم بدأ يلاحظ أن كثيراً منهم يغادر الطابور بعد برهة، أو ينظر إليه يود الشرب من عنده دون أن يفعل، وذلك ليتجنب الانتظار طويلاً، فهذا سوق والكل على عجلةٍ من امره. فقرر أن عليه فتح متجرٍ صغيرٍ في زاوية السوق لبيع التمر، فيه محاسب وبائع يساعده، وفعل هذا، ولكن بطريقة عجيبة لم يعد عصيره أشهى عصيرٍ في اللاذقية، وقلت مبيعاته كثيراً، وكذلك لم يعد بمقدوره التنقل في كل مكانٍ في السوق. فقرر إغلاق المحل والعودة إلى سابق عهده، ولكن هذه المرة وظف غلاماً يحاسب الزبائن بدلاً منه، حتى يوفر هذا الوقت الضائع، وينشغل هو بصب الكؤوس، وبالفعل، أصبحت العملية أسرع، ولم يعد هناك طابورٌ طويل، وزادت المبيعات، ولكن رغم هذا فقد وجد خللاً، فالربح لا يتناسب مع حجم المبيعات، ثم اكتشف أن الغلام يسرقه. وبعدها قرر إتباع هذه الإستراتيجية، التي أثبتت نجاحها، فهو لا يطلب المال من الناس بل يترك لهم مهمة وضعه في الجراب المخصص له، وإن لم يكن لديك الفكه، أو تنوي التبضع في السوق والعودة لشرب المزيد، فيمكنك الذهاب، والعودة لاحقاً لتضع المال. فزادت مبيعاته أكثر منها عندما كان الغلام، بل وزاد ربحه بما لا يتناسب مع حجم المبيعات، فبدأ يلاحظ وجود مالٍ في الجراب أكثر مما يتوقع، ومع الوقت لاحظ أن بعضهم قد إعتاد الأمر، وبدأوا يتهربون من الدفع، فاتفق مع ذلك الرجل أن يأتي كل ساعتين، ليمثل معه هذه التمثيلية التي رأيتها اليوم، وبطريقةٍ غريبة بدأ الجميع يدفع، حتى الذين لم يكن لديهم فكة حين شربوا العصير وقرروا العودة للدفع لاحقاً، ثم نسوا أو انشغلوا، بل حتى من يعلمون أنه يقوم بدورٍ تمثيلي فبعضهم يعود ويدفع المال من تلقاء نفسه. باسل: وهل لديك تفسير لهذا يا حيدر؟ -لا، ولست مهتماً بإيجاد، فهذا ليس ضمن اختصاصِ عملي أغلق سماعة الهاتف بعد أن شكر صديقه، ثم رفعها مرة أخرى. ينظر لها بريبة، ويعض شفتيه من جديد، قام بفكها، تفحص ما بداخلها، الإسلاك، جهاز الاستقبال والإرسال، لا وجود لأي أجهزةِ تجسسٍ داخلها، أغلقها ووضعها جانباً، لم يعدها إلى مكانها، لم يرد استقبال أي مكالمات في هذا الوقت. وللمرة الثالثة في حياته، يشعر أنه رجلُ مخابراتٍ، ويتصرف كرجل مخابرات. فلا بد أن هناك جهاتٌ في هذا العالم يهمها التجسس عليه لمعرفة تفاصيل عمله، فأراد التحقق من عدم وجود أي أجهزةِ تجسسٍ في الهاتف، وهذا شيءٌ لم يفعله من قبل. في اليوم التالي، وجد على مكتبه حزمةً معتادة من التقارير، يعرف ما سيكون مضمونها سلفاً، نظر لها باحتقار، وأزاحها جانباً، ثم أمسك قلماً وبدأ يكتب طلباً لرئيس الفرع، أن يسمح له بالمغادرة لأيام، فسيذهب بنفسه إلى البرية، بحثاً عن الغلام، ولن يعود قبل إنجاز مهمته. قرأ الرئيس الطلب، ونظر إليه نظرة فخرٍ واعتزاز، فهذا هو الضابط المثالي، الذي لن يتورع لحظةً واحدةً عن فعل ما يلزم لإنجاز مهمته، حتى إن لزم الأمر أن ينام ويأكل ويشرب بين وحوش البرية، بعيداً عن منزله المريح، وسيارته الحديثة، بعيداً وسط الجبال والسهول، حيث ربما يلقى مصيراً غير متوقع، إلا أنه لن يتلكأ عن فعل ما يلزم لإنجاز مهمته بنجاح. ذهب إلى السوقِ من جديد، شرب كأسَ تمرٍ هندي من عند البائع، ثم أكمل جولته. اشترى لباساً ومعداتٍ خاصة، يحتاجها كل هواة الصيد في البراري، حقيبةَ ظهرٍ كبيرة، خيمةً متنقلة، فراشَ نوم، حبال، إناء طبخ، وغيرها من المعدات اللازمة. ثم عاد وشرب كأساً أخر، وضع مبلغاً من المال في الجراب، ما يعادل ثمن مائة كأس، نظر في وجه البائع وقال، أنت تستحقه، أني أعلم السبب، فهل تعلمه؟ لم يعر البائع كلامه أي اهتمام، تعجب لما سمع وبنظرة استهجان تجاهل هذا المتطفل الذي يتحدث بكلامٍ غيرَ مفهوم، شكره على سخائه وأكمل عمله. ابتسم باسل، وغادر في حال سبيله. لقد استحق البائع ذلك المال بالفعل، فقد كان سبباً في جعله يرى الحياةَ من منظورٍ جديد، ودفع عقله للعصف والتفكير كما لم يفعل من قبل، والنتيجة كانت خطة، نعم لقد بات لديه خطةً يتبعها، للنجاح في مهمته. فكر فيه طوال الليلة السابقة، واكتشف أن زي البائع الشامي التقليدي، له دورٌ هام في مذاق العصير، رغم أنه لا يدخل في مكوناته بشكل مباشر، إلا أنه بالفعل أحد مكوناته الرئيسية. فهذا الزي يخاطب عقل الزبائن، يقول لهم، هذا العصير قادمٌ من بين صفحات الشام العتيقة، بجودةِ الماضي وعراقته. وكما أن العقل يتعرف على الطعم بحاسة الذوق، فإنه يتعرف عليه كذلك بحاسة البصر، فإن أعجبه المظهر، أصدر ما يلزم من إشارات اللذة تجاهه. ولذلك، عندما فتح متجر بيع العصير، خسر نقطة قوته هذه، فلم يعد للزي نفس التأثير عنه عندما كان يتجول كما فعل بائعو التمر قبل ألف عام. كما أنه خسر نقطةَ قوةٍ ثانية، فحين كان بائع متجولاً، أمكنه الوصول إلى جميع زوايا السوق، أي أنه يوصل المنتج ليد الزبون، بينما في المتجر، حصر نفسه في زاويةٍ ضيقة لا يشتري منه إلا من قد يمر أمامها. وتلك التمثيلية، كانت أفضلَ استراتيجية ختم بها خطة محكمة، لعله لم يخطط لها، إلا أن تجاربه وخبرته في الحياة، قادته لها. فعندما شعر الناس أنهم أحرار، بإمكانهم الدفع الآن، أو لاحقاً، بدأوا يشربون وكأنه عصيرٌ معدٌ في منازلهم، فبعضهم شرب بدل الكأس ثلاثة، وبعضهم يذهب يتبضع ثم يعود ويشرب، ثم يكمل تبضعه، وهكذا، ومن دون أن يشعروا، يجدون أنفسهم مديونين له بمبلغٍ من المال، عليهم سداده، وفي النهاية يعودون ويدفعون ثمن كل ما شربوه وزيادة. كثير منهم عاد وسدد المال من تلقاء نفسه، وبعضهم نسي تسديده، فكانت تلك التمثيلية بمثابة تذكير لهم بالسداد، وبعضهم لم ينسى ولكنه ببساطة أراد التحايل عليه، وبمجرد أن يرى هذه التمثيلية، يشعر وكأنه مكان الرجل، يشعر بشيءٍ من الحرج، وصوتٍ داخليٍ يقول له، اذهب وادفع، حتى لا تتعرض لهذا الموقف المحرج. بالطبع، فليس الجميع يهتم، بعضهم غادر السوق دون أن يسدد، ولكن بالمحصلة، مبيعاته زادت كثيراً، وأصبح له بصمةً خاصة يتميز بها عن جميع بائعي التمر الهندي في اللاذقية، وفي النهاية رغم أن بعضهم شرب بالمجان، إلا أنه كان يجد مالاً أكثر مما كان يتوقعه، والسبب، أن كثيراً منهم كان يضع النقود بالجراب، ويغادر دون أن ينتظر الفكة، فمن سيعطيه الفكة أصلاً، وهذا الذي لا يريد تركه فكة، شرب كأس ثانٍ بدلاً منها. في ساعات الفجر، كان قد استخلص من قصة البائع ثمانيةَ حِكمٍ رئيسية: أولاً: الاهتمام بالمظهر، عليك أن تبدو بالمظهر المناسب للأمر الذي تقوم به، لا تلبس بنطالاً من الجينز وتبيع التمر الهندي، لن تكون مقنعاً. وذلك لأن عقل الإنسان يتعرف على أي منتج من خلال حواس الجسد كلها، وليس الحاسة التي على علاقة مباشرة بالمنتج فقط، ففي حالة العصير فإن حاسة البصر، والشم، لهما دورٌ فاعل في قرار العقل تجاه مذاقه، بل حتى من الممكن أن يكون لحاسة السمع دور، إن كنت تصبه وتترك للناس سماع خريره ينسكب بخفةٍ في الكأس، واللمس كذلك، إن قدمته بكأس ذو ملمسٍ مميز. ثانياً: توريط الناس، نعم توريطهم، فهم عندما يأخذون شيئاً دون دفع ثمنه، يأخذون أكثر مما يحتاجون، حتى وإن كانوا يعلمون أنهم سوف يسددون ثمنه لاحقاً، ففي عقلهم اللاوعي عندما يأخذون شيء دون دفع ثمنه فورياً في نفس اللحظة، فإنهم يعاملوه معاملة المجاني. وللمصادفة فإن هذا فرقٌ جوهريٌ بين سياسة الدول الاشتراكية، والدول الرأسمالية، إلا أنه في النهاية سينتهي بالمواطنين إلى نفس النتيجة. ففي حين تكبت الاشتراكية روح الإبداع والابتكار من خلال تنصيب نفسها وصياً على أموال الناس، ودخلهم، وطرق إدارتهم له، فإن الرأسمالية، تترك لهم الحرية ثم تصطادهم بطرق مختلفة، ومنها البنوك، خذ ما تشاء وسدد لاحقاً، وسرعان ما يكتشف المواطن فيها أنه بات عبداً للبنك طوال حياته، التي سيقضيها في تسديد قروضاً لم يكن بحاجةِ كثيرٍ منها اصلاً، لكن المال كان أمامه، وسدد لاحقاً، لمَ لا!! ثالثاً: عليك أن تمتلك وسيلةَ إرهابٍ لمن يحاول التحايل على القانون، ووسيلةَ تذكيرٍ لمن قد ينسى، وهذا ما فعلته التمثيلية. فهي قد حلت محل رسائل البريد البنكية، التي تذكر الناس بموعد السداد، وتنبههم من مغبة تجاهله. رابعاً: لا تفكر بالمربح بلا مخسر، بل عليك أن تتقبل الخسارة بصدرٍ رحب، وتتوقعها، وتتعامل معها على أنها جزءٌ رئيسي من تجارتك، فلا تحاول إحكام سيطرتك على كل شيء، وتشتت نفسك وتضعف سوقك في سبيل منع أحدهم من سرقتك. وهذا أيضاً ما يحدث في مثال البنوك، فبعضهم يتجاهلون التنبيهات، ويهربون بالقروض خارج الدولة، بمئات ملايين الدولارات، ورغم هذا فالبنك يبقى رابحاً، فهو يعوضها من أرباح قروض الغالبية الذين تقبلوا مصيرهم والتزموا بالسداد لتجنب السجن. خامساً: كثيرٌ من البشر بطبعهم يحبون إكرام من يثق بهم، ولهذا كثيرٌ منهم ترك بقشيشاً جيداً، وهذه الزيادة ساهمت كذلك في تعويض ما خسره مع خسيسي الطباع، الذين يشربون ويغادرون بلا دفع الثمن. فعليك أن تثق بالناس قدر المستطاع، حتى إن خذلوك مرة ومرتين، فكثير منهم يقابل الثقة بالإحسان. سادساً: إن قدمت نفسك بصورةٍ مقنعة، ومرضية لمزاج الأخرين، فسيقبلون أخطائك بل وقد يعالجونها من تلقاء أنفسهم، رغم وجودها. كما حدث معه حينما بدأ عقله يجد إجابات مرضية لنظافة الكأس، فأحب أن يطمئنه إلى أن البائع لابد وأنه يضع نوعاً من المعقمات في الوعاء لضمان سلامة الزبائن، وهذا لأن طعم التمر قد نال استحسانه. سابعاً: لا تحصر نفسك في زاويةٍ واحدة، ولا تنتظر قدوم الزبائن إليك، عليك التحرك. فلا تجلس في برجٍ عاج، تروج لمنتجك المميز، وتنتظر الناس أن يأتوا إليك، فلن يأتي كثيرٌ منهم، بل عليك التحرك والتحرك في كل مكان تتوقع أن منتجك قد يلاقي الإقبال فيه. ثامناً: لا تقدم إلا أفضل ما لديك، ولتستطيع فعل هذا، فأنت بحاجةٍ لأفضل الظروف. وفي حالته، فقد بدأ يشعر بضابط مخابراتٍ ناجحٍ في داخله، كل ما كان بحاجته هو الظرف المناسب، وهنا فهي القضايا الدسمة المليئة بالألغاز. فلا وجود لشخصٍ فاشل وأخر ناجح، بل هي الظروف، فالفاشل استسلم لظروفه وواقع حاله، لم يحاول أن يغير شيئاً من بيئته المحيطة، التي صادف أنها غير مناسبةٍ له، ففي الوقت الذي عليه التحرك للبحث عن البيئة المناسبة له للنجاح، فإنه قد استمر في مكانه وحكم على نفسه بالفشل. بينما لو تجرأ واتخذ خطوةً نحو التمرد على هذه الظروف، وتغييرها، أو الانتقال إلى بيئةٍ مختلفة بظروفٍ مختلفة، فلا بد له في النهاية أن يجد البيئة المناسبة له للإبداع والابتكار. فعدم طرح أشجار التفاح لثمارها في الصيف، لا يعني أنها بلا فائدة، كلنا نعلم أن علينا انتظار الشتاء، لتعطينا أفضل ما لديها. وبالمثل، فإن كل كائنٍ حي على هذا الكوكب، يقدم أفضلَ ما لديه في بيئته المناسبة. وهذا ما فعله هو بنفسه، لقد صدق طويلاً أنه ضابطُ مخابراتٍ فاشل، ولكن ها هو بدأ ينتبه لأمور لم يكن يعيرها أي انتباهٍ سابقاً، بمجرد أن عمل على قضيةٍ مختلفة عن القضايا التقليدية التي عمل بها سابقاً. جهز خطته.. وأولُ خطوةٍ قام بها هي لباس الصياد، ومعداته، التي ستجعله يعيش دور الصياد من كل جوانبه. ولكن قبل المضي قدماً بالخطة، لابد له أن يجد الصبي أولاً… كيف يمكنه إيجاده! نعم برقت الفكرة في رأسه، لا داعي لأجده أنا، لندع البقرة تفعل ذلك Share this… Copy Facebook Messenger Twitter Pinterest Linkedin Whatsapp Telegram 1Artboard 1 copy 2 Snapchat Skype Print The Sect – Arabic Online Post navigation Previous postNext post Related Posts فهرس المحتويات March 16, 2023March 16, 2023 الإهداء كلمة الكاتب المقدمة الفصل الأول. هروب جماعي الفصل الثاني. الغصن الفصل الثالث. الدكتاتور الفصل… Read More الفصل الأول. هروب جماعي March 16, 2023March 16, 2023 بالكاد تمكن من تذوقها، ولسببٍ لا يعلمه بصق ما في فمه منها، فما أن سمع… Read More الفصل الثامن. مفاجئة غير متوقعة March 16, 2023March 16, 2023 استشاط الرائد باسل غضباً، يصرخ عبر جهاز اللاسلكي، ويشتم فريق الاعتقال: كيف هرب منكم؟ تباً… Read More Leave a Reply Cancel replyYour email address will not be published. Required fields are marked *Comment * Name * Email * Website Save my name, email, and website in this browser for the next time I comment. Δ
فهرس المحتويات March 16, 2023March 16, 2023 الإهداء كلمة الكاتب المقدمة الفصل الأول. هروب جماعي الفصل الثاني. الغصن الفصل الثالث. الدكتاتور الفصل… Read More
الفصل الأول. هروب جماعي March 16, 2023March 16, 2023 بالكاد تمكن من تذوقها، ولسببٍ لا يعلمه بصق ما في فمه منها، فما أن سمع… Read More
الفصل الثامن. مفاجئة غير متوقعة March 16, 2023March 16, 2023 استشاط الرائد باسل غضباً، يصرخ عبر جهاز اللاسلكي، ويشتم فريق الاعتقال: كيف هرب منكم؟ تباً… Read More