March 16, 2023March 16, 2023 الفصل الحادي عشر. بائع التمر الهندي سوق العنابة، واحدٌ من أشهر الأسواق الشعبية في مدينة اللاذقية، معظم تجاره وزبائنه من أبناء الطائفة العلوية، حيث تمشى الرائد باسل بين متاجر السوق، لا يعلم ما يريد تحديداً، ولكنه تذكر حكمةً كانت السبب في وجوده هنا الآن. وللسخرية فمن قالها له هو عجوزٌ في أواخرِ أيامه، تعرض للاعتقال في الفرع للضغط على ابنه الهارب لتسليم نفسه. وابنه ذاك، كان هارباً لقضايا سياسية حساسةٍ جداً تهم أمن الدولة من الدرجة الأولى، فقد قال في جلسة سهر وسمر، بعد عدد من كؤوس النبيذ، أنه يظن أن على الرئيس حافظ الأسد أن يقوم ببعض الإصلاحات السياسية في الدولة. في اليوم التالي كان التقرير على مكتب الرائد، والذي أصدر أمراً فورياً باعتقال الرجل، ولكن لسوء الحظ فقد كان الأخير قد أفاق صباحاً من سكرته، وتذكر ما قاله، ولاذ بالفرار، وحتى لا تعود دورية الاعتقال خالية الوفاض، اصطحبوا معهم أبيه العجوز. في مكتبه طلب منه العجوز تفسيراً لسبب وجوده هنا، فكان رد الرائد تقليدي قاله مئات المرات قبلها، ذنبك أنك أنجبت ذلك اللعين، لن تبرح مكانك حتى يسلم نفسه. فرد عليه العجوز، ابني سكير غير مبالي، وأنا عجوز في أخر أيامي، لن يفيدك اعتقالي شيء، ولكن إن أردت إيجاده، فعليك الخروج من مكتبك العاجي هذا، فاذهب إلى الأسواق، تمشى بين الناس، استمع لكلامهم، وتعلم من معشرهم، ففيها تجد حِكم الماضي، واستشراق المستقبل، وإن وجدت هاتان، فستجد أي شيء أخر تريده. لم يسلم الأبن نفسه، ولم يكن بمقدور الرائد احتجاز عجوزٍ على مشارف قبره وقتاً طويلاً لأمر ٍكهذا، وبعد أيامٍ تركه لحال سبيله، بدلاً من أن يموت في زنازين الفرع، فيضطر عندها كتابة تقرير لرئيسه يوضح به سبب موت عجوز في زنازينه، فأمر العجوز لا يستحق عناء كتابة التقرير، ثم نسيه ونسي حكمته، لكن بالطبع لم ينسى ابنه، الذي استمر بمطاردته حتى اعتقله في وقت لاحق. واليوم ها هو تائه، لا يعلم من أين وكيف يبدأ، حِكمة العجوز، قرر العمل بها. وهو في السوق، رأى مشهداً مألوفاً، بائعاً متجولاً يبيع عصير التمر الهندي، بلباسه الشامي التقليدي، يحمل على ظهره دلة كبيرة، وكؤوس زجاجية. يصب للزبائن، يشربون ويعيدون الكأس، في وعاءِ ماءٍ صغيرٍ يحمله على خصره، ثم يأتي زبون أخر، ليخرج كأساً من الوعاء ويصب له العصير. لم يشرب منهم يوماً، لما يراه خطراً على الصحة العامة، فالعديد من الناس يشربون من نفس الكأس بلا تنظيف ولا تعقيم، وقد كان محقاً، فالكؤوس البلاستيكية التي تستخدم مرة واحدة غير منتشرة بعد في هذه الأسواق، والبعض يفضل شرب التمر الهندي بكأس زجاجي، فالبلاستيك يبدل طعمه، ويفسد جودته. ولكن هذه المرة دقق في بعض التفاصيل التي لم يكن قد شاهدها من قبل. فهذا رجلٌ بلباسٍ وهندامٍ مرتب، يبدو عليه معالم الترف، يقف أمام البائع، يخاطر بصحته، ليشربَ كأساً من عصيره! تساءل ما الذي دفع هذا الغني لأن يأتي ويشرب من هذا الرجل، وهو الذي بمقدوره أن يشرب عصير التمر الهندي من أفخم وأرقى محلات بيعه في اللاذقية. ثم لاحظ أن البائع لا ينظر في وجوه الناس، عيناه بالكاد ترتفعان عن كأس العصير وهو يصبه، ثم يرفعه للزبون، دون أن ينظر في وجهه، وسريعاً يلتقط كأس أخر، ليصب لزبونٍ ثانٍ، من غير أن يسأل الزبون الأول عن ثمن العصير، وبعضهم بعد أن ينتهي، يضع في جراب معلق على حزام البائع بعض المال، وينصرف، وبعضهم ينصرف دون أن يضع شيئاً. للوهلة الأولى ظن أنه فهم السبب، فهذا البائع لا يطلب المال، ربما يقدم العصير بالمجان لأسبابٍ دينية أو عقائدية، وبعضهم من تلقاء نفسه يضع له بعض المال في الجراب، تطوعاً. ولكن سرعان ما تبددت فرضيته هذه، عندما شاهده يمسك يد أحدهم ويصرخ في وجهه بأعلى صوته، وبغضب، لقد شربت قبل ساعة، وتبضعت من أربعة متاجر، وها أنت تهم بمغادرة السوق دون أن تدفع ثمن ما شربته! بلا تردد أخرج الرجل المال ووضعه في الجراب، بعد وابل من الاعتذار والتذرع بالنسيان، لقد نسيت يا رجل، سامحني، ثم هم بالمغادرة. مضى الرائد في حال سبيله، وهو ينظر للبائع بريبة، لم يفهم ما جرى، مشى بضع خطواتٍ إليه، مد يده وأخذ كأساً، شربه بتأفف وعلى مضض، ووضعه في وعاء الماء ثم انصرف دون دفع الثمن. ابتعد بضع خطواتٍ، ثم توقف، جمع بقايا التمر على لسانه وفي فمه، ثم بلعه، ابتسم وعاد مرةً أخرى، شرب كأساً أخر بتلذذ هذه المرة، ثم وضعه في الوعاء، ثم انصرف. لقد فهم لتوه لمَ ترك ذلك الرجل الغني جميع محلات العصير الفارهة، وجاء خصيصاً ليشرب من هذا البائع، فبضاعته لن تجدها في أي مكانٍ أخر، لم يشرب طوال حياته عصير التمر الهندي بروعة عصير هذا البائع، وفهم أن البشر لديهم الاستعداد للمخاطرة في بعض الأحيان مقابل الحصول على المنتج الأفضل، والأجمل. ثم فكر بوعاء الماء، وبدأ لا شعورياً يجد نفسه يضع تبريرات تبرر قيام البائع بصب التمر في نفس الكأس لزبونٍ أخر، فقال في نفسه، لا بد أن هذا البائع قد خلط الماء بنوع مع المعقمات، يكفي أن تضع الكأس فيه ثم تخرجه ليصبح نظيفاً خالياً من أي أثارٍ فايروسية قد يكون الزبون السابق تركها عليه. لا شعورياً بدأ يقنع نفسه أن الكأس نظيف والتمر آمن، ولا داعي للخوف من شربه، وهذا كله بعد أن تذوق طعمه، وأعجبه. بعد نصف ساعةٍ من التنقل بين المتاجر عاد طريقه باتجاه البائع، مرة بجواره، وهو يتوقع منه أن يمسك يده، ويصرخ في وجهه، ها أنت مغادر دون أن تدفع، ولكن هذا لم يحدث، استمر البائع بعمله وكأنه لم يراه. ابتعد عنه، وغادر السوق، ثم قال في نفسه، لعله لم ينتبه لي عندما شربت أول وثاني مرة، فعاد واخذ كأس ثالث وشربه، وضعه في وعاء الماء وغادر، تجول في السوق من جديد، ثم عاد باتجاهه، وكما في المرة السابقة، لم يحدث شيء. تعب منه ولم يستطيع فهم لغزه، فوضع المال في الجراب، وعاد الى منزله، استحم وبدل ثيابه، ثم جلس يفكر بخطته لاستعادة الفتى، ولكن أولاً لابد من التحقق، عله عاد سلفاً، أجرى بعض الاتصالات مع الفرع، كلها تؤكد أن الفتى مازال هارباً. بدأ يفكر بخطته حين رن هاتف المنزل، رقم المتصل يشير إلى نورهان… -أهلا نورهان، كيف حالك -بخير، هل تريدني أن آتي الليلة؟ -لا، ليس اليوم، أنا مشغولٌ في قضيةٍ ما، سأتصل بك لاحقاً -ماهي يا حبيبي؟ صمت دون أن يرد بكلمة…. -الو، باسل، أين أنت؟ -هنا، سأتصل بك لاحقاً أغلق الخط، وقد أحس للمرة الثانية في حياته أنه رجل مخابرات. هذه المرة الأولى التي يعمل بها على قضية، يشعر أنه لا يجب أن يتحدث عنها أمام العاهرات، فمن هذه ومن تكون لتستحق أن تعرف تفاصيل قضية أعمل عليها!! جلس يفكر ويفكر، لساعةٍ كاملة، كاد يصاب بالجنون، لا أفكارَ ابداً، عقله لم يعتد التفكير، لا يعلم من أين وكيف يبدأ، أعياه انعدام الأفكار، فتمدد على أريكته، وأغمض عينيه، وفجأة تذكر بائع التمر الهندي. نهض عن الأريكة، أمسك سماعة الهاتف واتصل على أحد زملائه في العمل، مختصٌ بمتابعة عدد من الأسواق، من بينها سوق العنابة، له عناصرٌ منتشرةٌ بين الناس، يعرف كل شيءٍ يحدث هناك، وكل كلمةٍ تقال فيها، وتفاصيلَ حياة التجار كلها، الخاصةُ منها والعامة. -مرحباً يا حيدر كيف حالك؟ -أهلاً باسل، بخير، وأنت -بخير، وددت سؤالك عن بائع التمر الهندي في سوق العنابة، ما قصته؟ ضحكة دوت على الطرف الأخر من السماعة بقي باسل صامتاً ينتظر من صاحبه إنهاء ضحكته وبعد أن أنهاها: لمَ أنت مهتمٌ به؟ -رأيته اليوم، تصرف بشكل مثير للغرابة، بعض الناس يدفعون وآخرون لا….. قاطعه: هل رأيته حين أمسك ذلك الرجل وصرخ عليه عندما لم يدفع؟ -هل كنت هناك كذلك؟ -لا، ولكنه يفعلها كل يوم، ومع نفس الرجل ثم دوت ضحكةٌ أعلى من سابقتها Share this… Copy Facebook Messenger Twitter Pinterest Linkedin Whatsapp Telegram 1Artboard 1 copy 2 Snapchat Skype Print The Sect – Arabic Online Post navigation Previous postNext post Related Posts الفصل السادس عشر. التعدين والاستخلاص March 16, 2023March 16, 2023 رجلٌ يمضي في حال سبيله بين أزقة الشام القديم، أوقفه رجلان بلباسٍ مدني، قال أحدهم… Read More الفصل السادس. البقرة كاتبة التقارير March 16, 2023March 16, 2023 -الحمد لله، قطاف هذا العام وفير، ولدي بعض المال، فلابد من الاستثمار -ما الذي تنوين… Read More الفصل الثالث. الدكتاتور March 16, 2023March 16, 2023 في شمال غرب سوريا، سلسلةٌ جبلية تابعة لريف محافظة اللاذقية، تسمى جبال الأكراد، على مقربةٍ… Read More Leave a Reply Cancel replyYour email address will not be published. Required fields are marked *Comment * Name * Email * Website Save my name, email, and website in this browser for the next time I comment. Δ
الفصل السادس عشر. التعدين والاستخلاص March 16, 2023March 16, 2023 رجلٌ يمضي في حال سبيله بين أزقة الشام القديم، أوقفه رجلان بلباسٍ مدني، قال أحدهم… Read More
الفصل السادس. البقرة كاتبة التقارير March 16, 2023March 16, 2023 -الحمد لله، قطاف هذا العام وفير، ولدي بعض المال، فلابد من الاستثمار -ما الذي تنوين… Read More
الفصل الثالث. الدكتاتور March 16, 2023March 16, 2023 في شمال غرب سوريا، سلسلةٌ جبلية تابعة لريف محافظة اللاذقية، تسمى جبال الأكراد، على مقربةٍ… Read More