March 16, 2023March 16, 2023 الفصل الرابع. العجوزُ العادل هرعت الأم إلى خارج المنزل، صراخ الغلام خرق أذنها، وقلبها، وقفت بينه وبين العجوز. شيءٌ من ماء الحياء مازال في وجهه على الأقل، عاد إلى الخلف تاركاً إياه في أحضانها، تبكيه ويبكي جراحه. حملته في صمت إلى الداخل دون أن تتفوه بكلمةٍ ولا حتى ترمقه بنظرة، فمن ذا الذي يتجرأ على تحدي العجوز، ليس طالما ابنه يعمل سائقاً خاصاً، عند ضابط علوي في جهاز المخابرات الجوية، أهم أجهزة الدكتاتور في القمع والاستعباد. عشر سنواتٍ مرت على الأم كأنها طرفة عين، منذ اعتقال الأب، لأنه تجرأ ونادى بالحرية، والعدالة والمساواة، في وطن بات ملك الجلاد وطائفته وحاشيته، فكان مصيره الاختفاء، لا تعلم إن كان حياً فتتعلق بالأمل والانتظار، أم ميتاً، فتخلد ذكراه، وتمضي قدماً في حياتها. لا شيء إلا بضعُ شائعاتٍ يتبادلها الناس خفية، تطرق مسمعها من حين لأخر، عن واقع من الألم والعذاب يعيشه كل يوم في سجن صيدنايا السياسي سيء الصيت، برفقة آلاف السوريين المختطفين. تربى الغلام يتيماً مع وقف التنفيذ، متمرداً بطبعه، رفض واقعه، ورفض نظرات الحزن والشفقة في أعين الناس، بادرها بالاتهام واللوم. ذات الأعين التي راقبت زبانية الجلاد يأخذون أبيه قبل عشرة أعوام مضت دون أن يتجرأ أصحابها على التفوه بحرفٍ واحد، هي ذات الأعين التي راقبته يُجلد لا لذنب اقترفه، إلا أنه طالب بثمارِ شجرةٍ يملكها، جعل حظه العاثر غصناً منها يتجرأ على هيبة أرض العجوز المجاورة لأرضهم، فلا هو قطعه، ولا هو تركهم يأكلون منها. وفي كل عام، قطف العجوز ثمارها لنفسه، وذريعته أن الشجرة لابد أن تبقى واحدة، ومن الظلم لها أن يُقطع غصنها، ويشتت شملها. فالعجوز عادل، لا يظلم أحد، وهو يقر ويعترف بأن الشجرة ليست له، بل ملك أصحاب الأرض حيث ضربت جذورها، فهو لا يسرق، ولا يأكل مالاً حراماً، ولا يتعدى على حقوق الأخرين، ولكن إلى حين موت هذا الغصن أطال الله بقائه، فلا ينازعه على ثمارها أحد. ولفرط عدالته، فإنه لا ينتظر منهم رعايتها، بل يرعاها بنفسه، يسقيها كل عامٍ، لتسمن الشجرة، ويسمن معها الغصن أكثر. غصن العجوز، اختزل في طياته حكايةَ طائفة الجلاد وعدالته. اختزلت في طياتها عدالة الدكتاتور في سوريا بأكملها. فتلك طائفةٌ من الأقلية، وُجدوا نتيجة صدفةٍ أو حادثةٍ ما في بقعةٍ صغيرة من البلد، تم استمالت سادتهم ورعايتهم وتسمينهم من قبل الاستعمار، وتحت ذريعة حماية الأقليات، تم تسمينهم أكثر وأكثر، حتى تمددوا، وتوسعوا، ثم على حين غفلةٍ من الجميع، استحوذوا على الدولة بأكملها، بما فيها ومن عليها. وبذريعة الأمة الواحدة، والوطن الواحد، الذي لا بد أن يبقى واحد، قتلوا وعذبوا واستعبدوا، وسرقوا ونهبوا، مع كامل إقرارهم واعترافهم، بأن الوطن يملكه الجميع. على الرغم من أن تاريخ سوريا كله حافل بحكم الأقليات، فإن هذا لم يتسبب يوماً بنزعات عنصرية، أو طائفية، بل العكس، فمنذ القرن السادس الميلادي فقط، وحتى اليوم، لا يحكم سوريا إلا الأقليات، بل وكلهم تقريباً كانوا من غير السوريين، بدايةً من الدولة الإسلامية الأموية، ومروراً بالدولة الأيوبية والعثمانية، وإنتهاءً بحافظ الأسد والطائفة العلوية. لم يكن للشعب السوري أي اعترضٍ على هذا، بل إن الدولة ازدهرت طوال قرن ونصف من الزمان، كما لم يحدث من قبل، وأصبحت منارةَ العلم والمعرفة والتجارة في الشرق كله. حين كان العدل أساس الحكم، فلا فرق بين أبناء الشعب الواحد، والوطن ملكٌ الجميع حقاً. وقد كافأ شعبها هذا، بأن كانوا السند المتين، والحصن الحصين، لحكام الدولة وأنظمتهم، فدافعوا عن حريتهم أمام كل غزوٍ خارجي أو داخلي أراد تقويض هذا النظام من العدل والمساواة، فما أن طلت الفتنة برأسها في أي بقعة من بقاع الإمبراطورية الإسلامية، أو تجرأ حاكمٌ أجنبي بالتعدي على حرمتها، حتى كان أهلها رأس الحربة في القضاء عليها وعليه، وتثبيت نظام العدل والمساواة من جديد. ذاع صيتهم عند جميع حكام الدول الإسلامية عبر تاريخهم، بأن أهل سوريا هم صمام الأمان للإمبراطورية، وعامود ارتكازها. فهم شعب من السهل فهم عقليته، يستحيل حكمه بالحديد والنار، حتى إن توهمت خضوعه للقمع برهة من الزمن، سرعان ما ستتفجر حمم غضبه براكينَ في وجهك. شعبٌ معادلة حكمه يسيرة الفهم، بسيطة بلا تعقيد، أعطني العدل والمساواة، وسأعطيك كل شيء بالمقابل. ومشكلة حافظ الأسد هي أنه لم يفهم هذه المعادلة، فظلم، وقتل، وسرق، وهكذا فعل الكثيرون من أبناء طائفته، فتجبروا وعاثوا في سوريا فساداً. فضل الغلام العزلة، على الانخراط في مجتمعٍ صامتٍ على عدالة العجوز، وفي حين كان الناس يرون عزلته عزلة يتيمٍ مكسورِ الجناح، منعزلٍ على ذاته، يفتقد أبيه، ويبادرونه بنظرات الشفقة، والحزن والحسرة على مصيره المجهول، إلا أنها لم تكن كذلك ابداً. بل كانت عزلة وليد ولد ليصنع فجر جديد، أو هكذا على الأقل ظنها الغلام Share this… Copy Facebook Messenger Twitter Pinterest Linkedin Whatsapp Telegram 1Artboard 1 copy 2 Snapchat Skype Print The Sect – Arabic Online Post navigation Previous postNext post Related Posts الفصل الواحد والعشرون. الطائفة الإلكترونية March 16, 2023March 16, 2023 استمع وليد بكل حماسةٍ للكلمة الصوتية الجديدة للشيخ القائد، لقد تم بثها قبل قليلٍ عبر… Read More الفصل السادس عشر. التعدين والاستخلاص March 16, 2023March 16, 2023 رجلٌ يمضي في حال سبيله بين أزقة الشام القديم، أوقفه رجلان بلباسٍ مدني، قال أحدهم… Read More فهرس المحتويات March 16, 2023March 16, 2023 الإهداء كلمة الكاتب المقدمة الفصل الأول. هروب جماعي الفصل الثاني. الغصن الفصل الثالث. الدكتاتور الفصل… Read More Leave a Reply Cancel replyYour email address will not be published. Required fields are marked *Comment * Name * Email * Website Save my name, email, and website in this browser for the next time I comment. Δ
الفصل الواحد والعشرون. الطائفة الإلكترونية March 16, 2023March 16, 2023 استمع وليد بكل حماسةٍ للكلمة الصوتية الجديدة للشيخ القائد، لقد تم بثها قبل قليلٍ عبر… Read More
الفصل السادس عشر. التعدين والاستخلاص March 16, 2023March 16, 2023 رجلٌ يمضي في حال سبيله بين أزقة الشام القديم، أوقفه رجلان بلباسٍ مدني، قال أحدهم… Read More
فهرس المحتويات March 16, 2023March 16, 2023 الإهداء كلمة الكاتب المقدمة الفصل الأول. هروب جماعي الفصل الثاني. الغصن الفصل الثالث. الدكتاتور الفصل… Read More