March 16, 2023March 16, 2023 الفصل الرابع عشر. إستراتيجية الاستحمار سوق الحميدية، أشهرُ أسواقِ دمشق والشرقِ كله على الاطلاق، يقعُ في قلبِ دمشق القديمة، بناءٌ عريضٌ بطولِ الثلاثة كيلومترات مغطىً بالكامل بسقفٍ حديدي مليءٍ بالثقوبِ الصغيرة التي تسمح لأشعة الشمس بالدخول من خلالها، مبلطٌ بحجارة البازلت الأسود، تم بنائه بشكله الحالي في عهد السلطان العثماني عبد الحميد الأول عام 1780م، وأخذ اسمه منه. يبدأ عند نهايةِ شارع النصر مع شارع الثورة في منطقة الدرويشية، الجزء الأول منه يقع بجوار قلعةِ دمشق وفيه العديد من المساجدِ والمباني التاريخية العريقة، وتصطف على جانبيه المحلات التجارية من كلِ نوع وصنف على طابقين، تتفرع منه أسواقٌ كثيرة، كل سوقٍ مختصٍ بنوعٍ معينٍ من السلع، أي أن سوق المسكية مختصٌ بالكتب والقرطاسية، ينتهي عند بوابةِ معبد جوبيتر الدمشقي، ومنه إلى ساحة المسجد الأموي في قلب المدينة القديمة. يحيط بالسوق عددٌ من المعالم الأثرية والتاريخية فعلى يمينه تقع قلعةُ دمشق الشهيرة، يتقدمها تمثال القائد الإسلامي الشهير صلاح الدين الأيوبي وضريحه الذي يقع بين سوق الحميدية وحي العمارة التاريخي في دمشق القديمة. وقبل أعمدة جوبيتير الضخمة، باتجاه اليسار، تقع مكتبةٌ تاريخية بناها الظاهر بيبرس في فترة حكمه للشام وسميت على اسمه، صرحٌ ثقافيٌ كبير، لايزال شاهداً على كونِ دمشق أهمَ حاضنةٍ للثقافة والعلم والمعرفة في الشرق على مر العصور. كل شيءٍ في السوق وحوله، يقول إن التاريخ بدأ هنا، وسينتهي هنا يوماً… على الأقل فالشاميون يؤمنون بهذا، من منطلق إيمانهم بالإسلام، الذي تحدثت به العديد من الروايات عن نهاية الزمان، والتي ستكون هنا في أرضهم هذه، وتحديداً في مكانٍ قريبٍ من هذا السوق، ليس بعيداً عنه، على الباب الشرقي لدمشق القديمة، منارةٌ تسمى بالمنارة البيضاء، يظن المؤرخون الإسلاميون أنها المكان المقصود الذي تحدث عنه النبي محمد عندما قال إن عند نهاية الزمان فإن عيسى ابن مريم سيهبط من السماءِ إلى الأرض، في شرقِ دمشق. نهاية الزمان، الذي لن ينتهي بصمتٍ وسلام، فجميع المؤمنين وغير المؤمنين، يتفقون على كونه سينتهي بصورةٍ ملحمية، ليرسم أعظمَ لوحاتِ الرعبٍ والخوف على مر العصور والأزمنة، والتي لن تجد من يحكي عنها يوماً، فلن يبقى بعدها كائنٌ حي عاقلٌ أو غيرَ عاقل، ليتذكرها ويقصَ حكايتها، بل لن يبقى حتى الزمانُ نفسه. غير المؤمنين بالله، يسمونه بالنهاية وحسب، حين تنفذ الطاقة، ويتمدد الكون ويتوسع حتى يتجمد، أو ينكمش على ذاته ويُسحق، في رقصةٍ ملحميةٍ من التصادمات الكونية والانفجارات والغازات المنبعثة، تعيد مشهد البدايةِ نفسه، حين حدث الانفجار العظيم الذي وُلد منه الكون. بينما المؤمنون بالله فلا مشكلةَ لديهم في طريقة النهاية، يتمدد، يتجمد، يرقص، يفعل ما يفعله، فقد تعددت الأسباب والموتُ واحد، وفي النهاية لن يبقى إلا الله الواحد الأحد، وتعود الدنيا كما كانت، لا شيءَ إلا هو، ثم يبدأ فصلٌ جديد، لكن بلا زمان، وبلا موت، ليُبعث البشر مرةً أخرى، وينتهي بهم المطاف في جنةٍ ونعيم، أو جهنمٍ وجحيم. أما الطائفةُ العلوية في سوريا فإن لديهم أسرارَ البدايةِ والنهاية، الزمانِ والمكان، المجراتِ والأكوان والكواكب، وحتى أسرارَ الحياة خارج الكوكب، بل الكون كله. فكل ما يمكنك تخيله والتفكير به من أسرارٍ، فإن أجوبتها لديهم، وفي كتبهم السرية، التي لا يعلم أحدٌ مكانها إلا سادتهم، ولكنهم ببساطة يكتمون هذه الأسرار، ليس عن الغرباء فقط، بل حتى عن أتباعِ طائفتهم، والطوائف الصديقة، ولا يعرف أجوبتها إلا عددٍ محدودٍ من سادة القوم، يسمونهم بشيوخِ الطائفة، يتوارثونها فيما بينهم، من جيلٍ إلى جيل. فهم يتصفون عموماً بالغموض والسرية، ففي حين تحث المذاهب الأخرى وتعمل على نشر معتقداتها بين الناس لجذب المزيد من الاتباع، إلا أن الطائفة العلوية منغلقةً على نفسها، منحصرةً في بقعةٍ جغرافيةٍ واحدة. طائفةٌ تعلم خفايا وأسرار الدنيا كلها… أو طبعاً، بصورةٍ أكثرَ دقة، فالحال هو أنهم هكذا يريدون أن يظن الأخرين عنهم، وذلك لإخفاءِ ضعفِ معتقداتهم، وسذاجتها. فعندما لا يكون لديك شيءٌ تقدمه وتقنع الناس به، تقرر الانغلاقَ على نفسك، ثم تبدأ ترسم لذاتك هالةً من الغموض، وتوحي للأخرين أن لديك أسرارٌ خفية، لا يجب البوح بها، وعندما يسأل أحدٌ من خارج الطائفةِ عنها، يكون الجواب أنها حكرٌ على أتباعِ الطائفة، وعندما يسأل أحدٌ من أتباعها، يكون الجواب أنها حكرٌ على مجموعةٍ في مرتبةٍ أعلى، وعندما يسأل أحدٌ من هذه المجموعة، يكون الجواب أنها حكرٌ على مشايخِ الطائفة، وهكذا. ثم يتركون عقولَ أتباهم تتلاعب بهم بطريقتها الخاصة، فهذا يظن أن فلان من الناس يعلم الأسرار، ولكنه ينكر معرفته بها، وهذا يسألُ أحدَ المشايخ سؤالاً، فيحصل على جوابٍ سخيفٍ لامنطقي، فيظن أن الشيخ العالم الفاهم قد تعمد السخافة، حتى يخفي حقيقةَ ما لديه، فيا له من داهية. كُتبهم تتحدث عنهم، فلن تجد كتاباً لهم إلا وقد نبه كاتبه بضرورةِ عدم نشرِ الكتاب لمن ليس آهلاً له، والمقصود من لن يصدق ما جاء فيه، وفي الحقيقة فما فيها لا يعدو كونه مجموعة من قصص الأطفال قبل النوم، يقدموها على أنها دستورٌ وكتبٌ مقدسة للطائفة، ويطلبون عدم نشرها تحت غطاء السرية، حتى لا يتعرضون لسخرية الأخرين، وللنقد والملاحقة الفكرية، التي لا محالة ستجعل من أتباع طائفتهم أكثر وعياً، وفهماً، إلى أنهم يتبعون مجردَ خرافاتٍ صبيانية. فأن يبقى الأتباع قلةٌ تحت السيطرة، خيرٌ من أتباعٍ كُثرٍ خارج السيطرة، وكلما قل العدد، أصبح من الممكن التحكم به بصورةٍ أفضل. وتحت ذريعة الأقليات، تم إرهاب أتباعهم من الأخرين، واستعطاف المجتمع الدولي، فالأكثرية تترصدنا، يريدون التخلص منا، متجاهلين أنهم عاشوا في هذه الأرض منذ مئات السنيين، مر عليهم خلالها إمبراطورياتٌ إسلامية، ودولٌ وسلاطين، ولم يمسسهم أحدٌ بأذى. وتحت ذريعةِ جهل الأتباع، ومعرفة السادة، تم في القرن العشرين قيادة الطائفة لتكون طائفةً وظيفية، أداةً يستخدمها من يدفع الثمن المناسب. فلم تعد الطائفة العلوية مجردَ أقلية، بل تحولت إلى ما يشبه التنظيم، له مجلسٌ سري يديره، وأتباعه هم حاضنته وجنوده المخلصين، وبالذهب والمال اشتروا من تمكنوا من شرائه، ثم قمعوا الغالبية من الشعب، وحكموهم بالحديد والنار، في سبيلِ مصلحةِ الزبون، الذي يدفع بسخاءٍ منقطع النظير. هذه الاستراتيجية لاقت نجاحاً باهراً ليس فقط عند الطائفةِ العلوية، بل في كل طائفةٍ أو مجموعةٍ من الناس قررت الاعتماد عليها. فهي تعتمد بشكلٍ أساسيٍ على ثلاثةِ عواملَ رئيسيةٍ: أولاً: إخافة الأتباع من محيطهم، وتنمية العداوةِ بينهم، من خلال الاعتداء على الأخرين باسم الطائفة أو التنظيم، ليجد الجميع أنفسهم في قارب السادة، إن غرقوا يغرق الجميع معهم، وهذا بالطبع يعطيهم السلطة للجلوس والتمتع والتلذذ بشمس البحر، في حين يعمل البقية ليل نهار، في سبيل ترقيع القارب، ومنعهِ من الغرق. ثانياً: استغباء الأتباع، وجعلهم يشعرون دائماً أنهم طبقةٌ دونية بالمقارنةِ مع السادة وأصحاب الشأن، وأنهم غير مؤهلين لمعرفة الأسرار، ولا للتعامل معها، ولا بد لهم أولاً المرورَ في سلسلةٍ طويلة من البروتوكولات المتبعة، والاختبارات القاسية، قبل أن يكونوا مؤهلين لمعرفتها، ثم في نهاية هذه السلسلة لابد أن يقع عليهم الاختيار، هذا إن تمكن أحدهم اجتياز الاختبارات، التي سينتهي منها في مرحلةٍ عمرية متقدمة، وبعد أن يتورط ويغرق فيما لا يمكنه التنصل منه أو الرجوع عنه، ثم عندها سيكون جاهزاً، ليس لمعرفتها، بل للعب دوره في المسرحية. ثالثاً: القمعُ والإرهاب، لكل من يتجرأ مخالفةَ رأي السادة، بحجة المصلحة العامة، وتخويفهم، لضمان عدم انقلاب أحدٍ عليهم، فكل من حاول التمرد، كان مصيره الطرد، ليس من الطائفة فحسب، بل ربما من الدنيا كلها. استحقت بجدارةٍ أن تسمى استراتيجية الاستحمار.. لأنه يتم بها معاملةُ الأتباع على أنهم قطيعٌ من الحمير، لا يفقهون ولا يفهمون، وأن المعرفة الحقيقة هي حكرٌ على عددٍ محدودٍ من أصحاب الشأن فقط، الذين لا يجب مجادلتهم في أي أمرٍ أو قرارٍ يتخذونه، فهم يعلمون ما لا يعلمه البقية، ويرون ما لا يروه، ويسمعون ما لا يسمعوه. وإن أُوكلت لأتباع هذه الطائفة، وهذا الفكر، سجنٌ يديرونه، ومساجين يتحكمون في مصيرهم، فلن يصبح الوضع في السجن أقلَ غرابةٍ من طائفتهم. ففي سجن صيدنايا سيءُ السمعة، أو ما يسمى بالمسلخِ البشري، يتم فرز المساجين إلى مجموعات، وعزلهم عن بعضهم البعض، فكل مجموعةٍ تعيش في قسمٍ خاصٍ بها، له قواعده الخاصة. في هذا المسلخ، لا يتم سلخ الجميع، بل بعضهم يلاقي معاملةً ملوكية، وبصورةٍ مثيرةٍ للدهشة، فإن أكثر من يلاقي المعاملة المميزة، هم بعض أكثر المساجين خطورة على النظام وأمن الدولة. أقسامه كثيرة، إلا أن قسماً واحداً منها، هو الأكثرُ أهمية، فهنا ما زال بعضهم في مرحلة الاختبارات، في طريقه أن يصبح شيخاً من شيوخ الطائفة. ليس الطائفة العلوية، بل طائفةً جديدة، جاري العمل عليها، بات لها أتباعٌ لا يفقهون ولا يفهمون، وسادةٌ يعلمون جميع الأسرار، جاهزون لقيادة القطيع، بمجردِ فتح أبواب السجن. في مكتبةٍ صغيرة، في زاوية سوق الحميدية، قبل المسجد الأموي نحو اليمين قليلاً، تقدم من صاحب المكتبة رجلٌ بلحيةٍ خفيفة، يبدو عليه الاضطراب والخوف.. -مرحباً يا سيدي -أهلاً بك، بمَ يمكنني مساعدتك؟ -قال لي صديقي أن لديك كتابَ ألف ليلةٍ وليلة… صمت لبرهة ثم أضاف: الثاني نظر البائع له نظرةً فاحصة… -من أرسلك؟ -صديقي سليمان أدار ظهره، وتوجه نحو بابٍ داخل المكتبة، دخل مخزن الكتب، ومن رفٍ مخفيٍ بين الرفوف، أخرجَ كتاب ألف ليلةٍ وليلة، عاد يحمله بين يديه. أخذ الزبون الكتاب، ويده ترتجف خوفاً، دفعه ثمنه، أدار ظهره، ومشى مبتعداً. في سوريا، فليس كل الكتب مباحٌ بيعها وشراءها، وقراءتها.. وإن كان بين يديك كتابٌ ممنوع، فسينتهي بك المطاف معلقاً على دولاب التعذيب في أحدِ الفروع الأمنية. وتلك الكتب الممنوع تداولها، خصوصاً التي تؤسس لفكرٍ عقائدي منحرف، لن يمكنك الحصول عليها إلا بطريقتين… الأولى أن تذهب إلى إحدى المكتبات السرية لأتباعِ هذا الفكر والثانية أن تكون نزيلاً في القسم المناسب في سجن صيدنايا Share this… Copy Facebook Messenger Twitter Pinterest Linkedin Whatsapp Telegram 1Artboard 1 copy 2 Snapchat Skype Print The Sect – Arabic Online Post navigation Previous postNext post Related Posts الفصل السابع. مهمة اعتقال March 16, 2023March 16, 2023 في مبنى فرع المخابرات الجوية في اللاذقية، أغلق الرائد باسل سماعةَ الهاتف، أمسك هاتفاً أخر،… Read More The Sect – Arabic Online حول الرواية والحقوق March 16, 2023April 26, 2023 الطائفة أحمد أ. الخليل تدقيق وترجمة أسيل أ. مخيمر الذئب يأكل شارد الغنم وفي القطيع… Read More الإهداء March 16, 2023March 16, 2023 إلى جميع قُراء رواية اللحظة صفر، لأجل كل كلمة جميلة سمعتها، وكل دعم تلقيته، وكل… Read More Leave a Reply Cancel replyYour email address will not be published. Required fields are marked *Comment * Name * Email * Website Save my name, email, and website in this browser for the next time I comment. Δ
الفصل السابع. مهمة اعتقال March 16, 2023March 16, 2023 في مبنى فرع المخابرات الجوية في اللاذقية، أغلق الرائد باسل سماعةَ الهاتف، أمسك هاتفاً أخر،… Read More
The Sect – Arabic Online حول الرواية والحقوق March 16, 2023April 26, 2023 الطائفة أحمد أ. الخليل تدقيق وترجمة أسيل أ. مخيمر الذئب يأكل شارد الغنم وفي القطيع… Read More
الإهداء March 16, 2023March 16, 2023 إلى جميع قُراء رواية اللحظة صفر، لأجل كل كلمة جميلة سمعتها، وكل دعم تلقيته، وكل… Read More