الفصل العاشر. ضابط مع وقف التنفيذ

في دولة الدكتاتور فالرعب يسيطر على الحجر والشجر قبل البشر، وفتىً في السادسةِ عشر من عمره، رأى عناصر المخابرات الجوية يقتحمون منزله بحثاً عنه، وتمكن بمعجزة من الهرب إلى البرية التي يألفها ويألف سبل النجاة فيها، سيفكر ألف مرة قبل المخاطرة بالعودة.

وهذا ما جعل مهمة اعتقال تقليدية، تتحول إلى مهمةِ إنقاذٍ معقدة، ومجنونة.

بعد انتهاء الاجتماع، استدعاه رئيس الفرع إلى مكتبه، فقد حان وقت الإيضاح، وبالطبع ليس كل شيء، فقط ما يلزم حتى يستقبل الرائد باسل وقع الصدمة التالية بنفسٍ هادئ، وأعصابٍ باردة.

الرئيس: اسمعني يا باسل، أنت تعلم كم أثق بك وبقدراتك وبذكائك، وليس لهذا علاقةً بعائلتك ولا أبيك، الذي كان من أعز أصدقائي رحمه الله، بل لتميزك في عملك، ولك في قلبي ونفسي محبة الاب لأبنه.

باسل: شكراً لك سيدي، أتمنى أن أكون عند حسن ظنك والجهاز بي.

-أريدك أن تتفهم ما سأقوله الآن بصدرٍ رحب، لا تجادلني، لا تناقشني.

شعر بقشعريرة تسري في جسده، فلم يسمع الرئيس يقول له هذا من قبل، أدرك فوراً خطورةَ ما سيسمعه، وجديته، وأهميته: حسناً سيدي، كلي أذان صاغية

-وليد فتىً استثنائي، لسببٍ لا يمكنني إيضاحه لك حالياً، وعليك أن تعيده إلى منزله، لوحدك بلا ضوضاء.

-أعرف هذا سيدي، لقد فهمته

كرر الرئيس مع نظرةٍ ثاقبة: لوحدك بلا ضوضاء يا باسل.

رد بنظرة استهجان، وكأنه فهم لتوه معنى كلمة لوحدك، فهي ليست تعبيراً مجازياً للسرية، بل إن الرئيس يقصدها حرفياً، قال متعجباً: ماذا تقصد سيدي؟

-لوحدك يا باسل، بلا فريق عمل، يمنع عليك الاستعانة بأي عنصر، يمنع عليك استخدام صلاحياتك، وحتى يمنع أن يعرف أي أحد في القرية والقرى المجاورة لها، بمن فيهم الفتى نفسه، أنك ضابطٌ في المخابرات الجوية، عليك أن تعيده لمنزله بأي طريقة.

أضاف: بمعنى أخر، لا نريد أن يشعر أياً كان أننا نهتم لأمره، ولا حتى عناصر الفرع، لقد تورطنا، حاولنا اعتقاله أمام جميع سكان القرية، وهرب، لذلك قمت قبل قليل بالإشاعة في الفرع بأنك كنت على خطأ، وأنك أرسلت عناصرك لاعتقال فتىً بسبب تشابه أسماء، بينما لا يوجد أي مشاكل بخصوصه، ونأمل أن تجد هذه الأخبار طريقها بسرعة وبشكل طبيعي إلى القرية وأهلها، ثم إلى الغلام بطريقة ما.

ابتسم ثم أضاف: ولكنك تعلم، لن يصدقونا، سيعتقدون أن هذا كله كمين من أجل استدراجه، فهذا الحال في بلدنا وسبق لنا أن فعلناها واستدرجنا هاربين بهذه الطريقة بالفعل.

فلن يثق الناس بصدق هذا ما لم يروه عائداً إلى القرية وإلى حياته بصورةٍ طبيعية دون أن يتعرض له أحد.

وبالطبع يا باسل، إن أرسلنا فريق بحثٍ عنه، سيكون الأمر برمته مثيرٌ للربية، فمنذ متى ترتكب المخابرات الجوية الأخطاء في حق الناس، ثم تذهب تبحث عن المتضررين لتعتذر منهم وتعيدهم إلى حياتهم الطبيعية!!

لم نفعلها سابقاً، ولن نفعلها اليوم، لأننا إن فعلناها فهذا يعني أن الفتى حوله شيءٌ غامض.

المهمة أمامك واضحة، بلا عناصر، ولا صلاحيات، وبلا أي شيء يشير إلى هويتك، ستذهب إلى القرية، وتبحث عن الغلام، ثم بطريقة ما سوف تقنعه أنه نظيفٌ أمنياً، وما حدث في تلك الليلة كان خطأً، وأن عليه أن يعود.

-حسناً سيدي، سأفعل ذلك

استأذن وغادر مكتب رئيس الفرع، ثم إلى مكتبه، أغلق الباب خلفه، وقف أمام المرآة، انتبه لتوه أنه كان قد فغر فاه متعجباً ما يسمعه وهو في مكتب الرئيس، ومازال فاه فاغراً حتى الآن!!

حدّث نفسه، تباً ما قصة ذلك الفتى؟! هل هو لعنةٌ حلت علي؟! ماذا أفعل الآن؟! هل ألبس ثياب راعي أغنام، وأذهب أبحث عنه في البرية! ممنوعٌ اصطحاب عناصر، أو حتى رفيقٍ يسليني! ممنوع استخدام صلاحياتي!

وحتى إن وجدته، كيف سأقنعه بالعودة دون أن أقسم له أني ضابطٌ في المخابرات الجوية وأني من أصدرت أمر اعتقاله، وأني نادمٌ على ذلك!

احمر وجهه أمام المرآة، بالكاد يتنفس، ضيقٌ في صدره..

ثم فجأة تذكر أنه ضابطٌ في جهاز استخباراتي منذ أعوام، وهذه أول مرة في حياته يشعر أنه ضابط مخابرات!

فحياته العملية كلها روتينٌ قاتل، لا فائدة منه.

طارد فلان فقد ابدى امتعاض من سيادة الرئيس، اعتقل فلان فقد انتقد الحزب الحاكم، وفلان يتصل معه يريد منه خدمة لتعجيل إنهاء أوراقه في دائرة حكومية، وتلك العاهرة التي تنام معه بالمجان منزعجة من جارتها لسببٍ ما، تريد فركة أذن لها، وعامل صيانة الحمام في منزل أمه متلكئاً في العمل، اتصل به لجعله ينهي الصيانة أسرع، وأخته التي مازالت على مقاعد الدراسة الجامعية، تريد علامة امتياز، على الرغم من رسوبها في الامتحان، اتصل مع الاستاذ وتفاهم معه.

تذكر لتوه، أنه ضابطُ مخابرات مع وقف التنفيذ!

لا داعي لكونه في هذا المكان إلا لأنه من القرداحة وابن عقيد مخابرات سابق، ولا حاجة له هنا إلا لاعتقال وتعذيب كل من يتجرأ على شتم سيادته أو حتى انتقاد سياسته.

بينما جميع معارفه، أهله، أصدقائه، لا يحتاجونه في شيءٍ إلا للحصول على ما ليس لهم، أو ما لا يمكنهم الحصول عليه بدون إخافة أحدهم أو تهديده بالاعتقال.

لا شيء مثير في حياته،

بل إن جميع مهامه يمكن لموظف القهوة والشاي أن يقوم بها إن كان معه صلاحياته، وربما بشكل أفضل منه، فهو لا يختلف عنه في شيء إلا في كونه ليس قرداحي.

في داخله إحساسٌ ينتابه، بشيءٍ من إثارةٍ ولغزٍ مخابراتي نشده طويلاً.

ربما هذا الفتى ليس لعنة، بل نعمة أرسلها الله إليه في الوقت المناسب.

قرر أن مهمته ليست إيجاد الفتى وحسب،

بل ايجاده ومعرفة هذا اللغز الدائرُ حوله