April 26, 2023April 29, 2023 الفصل التاسع عشر. المهمة المقدسة حي باب الشعرية، منطقة الفجالة، في مدينة القاهرة، بالقرب من ميدان رمسيس، وصفت بمنطقة المثقفين، تزدحم بالمكتبات، دور النشر، متاجر القرطاسية. في أحد أزقة شارع باب البحر المتفرع من حي باب الشعرية، بيت صغير بأثاث قديم، في الطابق الأول من بناية من أربعة طوابق، غرفتين وصالة، بالكاد يتسع لهم، حيث استقر المطاف بالعائلة. مثير للسخرية حقاً، كان جزءاً كبيراً من هذه المنطقة ملك جدهم الأكبر، الأمير إسماعيل، صادرها محمد علي باشا بعد انحياز الأمير إلى جنوب مصر، وبعد قرابة المائة والخمسين عاماً، صادر جمال عبد الناصر جميع أملاك أحفاده؛ ليجدوا أنفسهم حيث كانت البداية مجددًا. وعلى خلاف الأماني، فإن ما حدث لهم، لم يبدل في زينبَ وطباعها شيء يُذكر، ما زلت هي زينب، طالما أنها تتنفس الهواء، فإن الطاغية المُستبد داخلها، لن يهدأ له بال، ما لم يعكر صفو حياتهم كل يوم. كأنها سلاح تدمير شامل، لا غاية لوجودها إلا العذاب، كائن طفيلي، يقتات على معاناة الآخرين، لا مفر منها، ولا وسيلة أو مناص للخلاص! مشهد طبيعي أن تبدأ بالصراخ والسباب في أية لحظة لأي سبب كان! يا أمي ألا تنظري إلى حالنا! وما حل بنا؟ اهدأي قليلاً علنا نستطيع التفكير. لا مبالية بهم وبحالهم، تواصل الشجار مع الجميع لأتفه الأسباب، بلا داعٍ أحيانا. لعله نتيجة لما ما حل بنا! أعصابها لم تحتمل تبدل الحال والتغيرات الأخيرة في حياتنا بهذه السرعة. هذه فرضية الأبناء، إلا أن حسن، الأب، أكثرهم خبرة ودراية بها، يعلم أن هذا ليس السبب، أدرك فورا أن ما زاد الطين بلة هو غياب الخدم، لا وجود لهم لتفرغ عليهم طغيانها! فهذه الطاقة من الجبروت، التدمير، التنمر، الاستبداد والاستعباد، لا بد أن تجد من تفرغها فيه، ولم يعد أمامها إلا هو والأولاد. بدا لهم الأمر وكأنهم يتعرفون لتوهم على زينب، تلك التي حال بينهم وبينها، وجود الخدم والحشم، ورغم كل ما عانوه في صغرهم منها، لكنهم يكتشفون توّا، أنه كان جنة من النعيم، مقارنة مع ما تفعله الآن. في القاهرة، حارة ضيقة، بنايات متقاربة، شُرف متلاقية، حيث تجد الرداحة بيئتها المثالية، ازدهرت المرأة السوقية داخلها، وكأنها وجدت توها بيئتها المثالية للنمو، في شرفة البيت الصغيرة، تقف وتسب الجيران، بأبشع الألفاظ، إن بدر منهم أي شيء يزعجها، وفي كثير من الأحيان، تفتعل المشاكل معهم؛ لتمارس الردح عليهم، والمُختلف هنا، هو وجود بعض الرداحات كذلك في الشُرف القريبة، والبعيدة، وما هي إلا لحظات، حتى تبدأ وصلة طويلة من الألفاظ والشتائم السوقية، تنهال من كل حدب وصوب. لكن زينب، رداحة من العيار الثقيل، سرعان من يستسلم البقية أمام سليط لسانها، توجت ملكة الرداحات في الحي كله، الجميع تحايدها، اشمأز منها، كرهها، تجنب الحديث معها، حتى النظر إليها. عائلة كانت حتى الأمس القريب، أرستقراطية، رباهم حسن على الفضيلة، وطيب الطباع، باتوا يخجلون بها ومنها، شهد لهم الأهالي بالأخلاق العظيمة، يتعجبون، كيف لهذا الرجل المسالم النبيل، وهؤلاء الأبناء الطيبون المثقفون، أن يعيشوا مع مثلها! وكيف لها أن تكون أماً لهم! في خضم هذه المعاناة، فإنهم يتأقلمون بصعوبة بالغة، كانوا حتى الأمس القريب من علية القوم، يسكنون القصور، وها هم اليوم يتزاحمون في صالة ضيقة، ينتظر كل دوره في دخول دورة المياه! إلا أن أقوى قوى البشر تبقى دوماً، قدرتهم على التأقلم الإبداعي، لا بد من التعايش مع المحنة، وبالتالي تجييرها لصالحهم، فإن نزلوا في بيئة، فإنهم لا يستنزفونها ثم ينتقلون لغيرها، كما تفعل الفيروسات، ولا يتأقلمون مع مقدراتها، ويصبرون عليها وعلى ما كُتب لهم، كما تفعل الحيوانات، بل يتأقلمون معها ثم يغيروها، يبتكرون، يبدعون، يقلبوها رأس على عقب، يجيروها لصالحهم في أسوء ظروفها. الإبداع، هذه المرة كان لزينب دور به من حيث لا تقصد، ومن حيث لا تريد ربما! طوال سنوات مضت، أراد الأب والأبناء إلهائها في شيء تحبه، اشتروا لها عشرات الكتب التي تحدثت عن الحضارة الفرعونية، علها تكفيهم والخدم شرها من حين إلى آخر. كانت مكتبتها في القصر حبلى بالكتب النادرة والخاصة بهذه الحضارة، تلك الكتب التي تركوها خلفهم، إلا أن نسخة منها، ما زالت موجودة في عقل زينب، أو على الأقل ما يكفي منها. كل ما أرادوه هو نصائحها، حول ما يتوجب عليهم التركيز عليه، كيف يبدأون تجارتهم الجديدة. وبصفتها ضليعة بهذه الحضارة، يمكنها تقديم العديد من النصائح المثمرة، للبداية على الأقل. أتت الفكرة على لسان يونس، ذو الثانية والعشرين عاماً، فكرة قد تُنقذ العائلة! نحن في وسط حي يرتاده المثقفون، العديد من المكتبات حولنا، الكثير منها يبيع كُتباً تتحدث عن الفراعنة، ولكنني حتى اللحظة لم يصدف أن شاهدت إحداها، متخصصة بحضارتهم، لنفتتح مكتبة فرعونية متخصصة، لا تبيع إلا الكُتب، المخطوطات، التُحف، كل شيء آخر، متعلق بالحضارة الفرعونية. ولديهم بطاقة رابحة، فزينب تخصصت بهذه الحضارة، وتعرف جيداً من أين تؤكل الكتف، وما يتوجب التركيز عليه بداية. وبطاقتهم الرابحة السرية، الذي لا يعلمون عنه شيئاً، حتشبسوت، ابنة الفراعنة، لن يتمكن أحد من مجاراتها في هذا المضمار. بدت الفكرة مذهلة، كل ما عليهم هو تأمين بعض المال، سرعان ما تدبروا أمرهم، العم محمود لديه علاقات وأصدقاء في القاهرة، وحسن يعرف عدد من التجار، يمكنه اللجوء إليهم. اقترضوا المال، وبدأ العمل، سرعان ما ازدهر، اشتهرت المكتبة. عام كامل، كان كافياً ليصبح متجرهم من أكثر المتاجر المتخصصة بالحضارة الفرعونية مبيعاً، وهذا لا يعني بالضرورة أنه يدر لهم الكثير من المال، إلا أنه بطبيعة الحال، قد بات لديهم ما يكفي من مرابح ليحيوا حياة كريمة، أفضل نوعاً ما من محطيهم. فمصر، في مرحلة انتقالية، لا أحد يهتم بها كثيراً للكتب، خصوصاً التاريخية منها، لا يهتمون لغير الزعيم جمال عبد العناصر، خطاباته، شعاراته، مغامراته، ومخططاته التي يرتجل كثير منها لحظة بلحظة، حسب مزاجه وحالته النفسية ربما! ألارا في عامها الثالث، تتألق جمالاً يوما بعد يوم، جالسة في حضن أمها بجوار نافذة الغرفة، تنظران إلى جدران البناية الملاصق لبنايتهم. زينب، بصوت مسموع: تعبت من هذا المنزل، اشتقت إلى القصر، بشرفاته وإطلالاته الواسعة الجميلة. حتشبسوت: لقد تجاوزنا الأمر، دعينا نركز الآن على مهمتنا المقدسة، ألارا. -حسن والأولاد منشغلون في المكتبة، العمل جيد، علنا نتمكن من الانتقال لمنزل واسع في العاجل القريب. -سيحدث هذا، لا تشغلي بالكِ به، علينا الآن التركيز على ألارا، لا بد من تدريبها، وتجهيزها. -ألا يمكنك استخدام الطلاسم مجددا؟ اجعلي حسن يربح الكثير من المال بين ليلة وضحاها، ما الذي يمنعك؟! -سأستخدمها، إلا أن الوقت غير مناسب، علينا الانتظار. بنبرة سخرية قالت زينب: ما أخشاه أن ننتظر أعواماً وأعواماً، كالأعوام التي جلسنا بها ننتظر مولد ألارا. بنبرة تحذير أجابت: لا تستهزئي بالطلاسم، قلت لكِ سأستخدمها في الوقت الملائم. ألارا ترفع رأسها منذ برهة، تنظر إلى عيني أمها، وشفتيها، ببراءة الطفلة، بالكاد تمكنت من تجميع بضع كلمات مكنتها من طرح السؤال: مع من تتحدثين يا أمي؟ زينب: مع حتشبسوت يا ابنتي؟ ضمتها إليها بقوة، كأنها جوهرة ثمينة، تخشى فقدانها، همست في أذن الصغيرة: ستزورك حتشبسوت يوماً ما، ربما بعد موتي، عليكِ الوثوق بها، لن تخذلك أبداً، كما أنها لم تخذلني من قبل، سترعاكِ، وتكون خير صديق يبحر بكِ دوماً إلى بر الأمان. ألارا: حتشبسوت؟! -نعم يا ألارا، تذكري الاسم جيداً، جعلتني ملكة من العدم، وستجعل منكِ ملكة من العدم كذلك. نظرت من النافذة، تنهدت، أضافت: إنني راضية إن مت اليوم على هذا الحال، فقد حييت حياة ما كنت أحلم بها حتى، أما أنتِ يا ألارا، فلا بد أن تحيي مثلها، وأفضل منها، ستحرص حتشبسوت على ذلك. حتشبسوت: لا تقلقي يا زينب، سأفعل ذلك. موجهة كلامها إلى ألارا: لن أخذلك أبدا، سأكون لك خير مُعيناً. أضافت: وسأحرص دوماً على أن تكوني بخير. في هذه المرحلة، لم يعد من أهمية تُذكر لحقيقة وجود حتشبسوت، وماهيتها. فقد عانى حسن الأمرين، دُمرت حياته ومستقبله، ماتت قمر ذات الفم الصغير، وذاق ثلاث أولاد وفتاتين الويل والعذاب، نجو بحياتهم، بأجسادهم فقط، تسكنهم الكثير من العقد النفسية، الخوف، التخبط، وذكريات العذاب، الألم، ليالي الخوف والبكاء، والكثير من الخجل، الضعف، التناقضات، اللايقين. دُمرت عائلة بأكملها، حياة بشر كان من المفترض أن تحيا حياة مختلفة، لولاها، وما زلت تعمل، لتدمير المزيد، نال عشرات الخدم والمزارعين نصيبهم من الطغيان، نتيجة لحتشبسوت! فهل بعد هذا، يكون للسؤال عن حقيقة وجودها أي معنى؟! إنها حقيقية بحقيقة وجود زينب، حقيقة بنتائج تصرفاتها، بما ترتب على وجودها، بغض النظر، عن هيأتها، وماهيتها. وها هي، تعد العدة؛ لتصنع ألارا التي تريد، ستجهزها على أكمل وجه؛ لتكون خير مُضيفاً لها، من صُلبها، فالدماء التي تجري في عروقها، ليست دماء زينب بقدر ما هي دماء حتشبسوت. وفي حين دخلت هذه اللعنة إلى زينب، نتيجة ظرف عارض، تأصل لاحقاً، فإنه لم يعد ذا أهمية، إن كانت حقيقة عابرة للزمن، بقيت حبيسة ذلك السرداب لآلاف السنيين، أو إن كانت مجرد وهم من خيالات زينب، نتيجة لما مرت به، ولما ابتكرته من أساليب النجاة، التي أثبتت نجاحها، فها هي في الرابعة والخمسين من عمرها، لم تنجُ فقط، بل كانت طوال أربعين عاماً سيدة ذات سلطة لم يسبق أن نالها من قبل امرأة في الصعيد، ورغم ما حل بالعائلة مؤخراً، إلا أنها قد ساعدت على فكرة أنجدتهم من العوز والضياع، فهي قادرة على التأقلم، والابتكار، في سبيل بقائها، الأهم، أنها تعهدت أن تجعل من ألارا ملكة كما جعلت من أمها. وفي حين كانت مع زينب تبتكر الأساليب، تتعلم، تتأقلم، فهي الآن جاهزة لمرحلة التطوير، ستربي الفتاة منذ طفولتها، على ما تريد لها أن تصبح عليه. وفي حين زينب تقاوم في بعض الأحيان، تُقاتل، تتحداها، تخالفها الرأي، ترفض، إلا أن ألارا، لا بد أن تكون طوع بنانها، خاتماً في إصبعها. فإن كانت زينب مدرسة العذاب، فإن ألارا ستكون الجامعة. ألارا الجميلة، المتألقة، الذكية. ألارا، التي إن كان من إله فرعوني جمع ما بين الجمال والدهاء والفتنة والإذلال والعذاب والمعاناة، فما كان ليكون اسمه إلا ألارا. أو هكذا على الأقل، تمنت حتشبسوت. Share this… Copy Facebook Messenger Twitter Pinterest Linkedin Whatsapp Telegram 1Artboard 1 copy 2 Snapchat Skype Print Zainab’s Curse - Arabic Online Post navigation Previous postNext post Related Posts زلزال تركيا 6-2-2023 April 26, 2023April 29, 2023 حتى اليوم لم أستوعب بعد، كيف يمكن أن أفقد هذا القدر من البشر الذين عرفتهم… Read More الفصل الحادي عشر. الأزقة لن تنساكم April 26, 2023April 29, 2023 -ستنامين منذ الليلة في غرفة خاصة بك في الطابق العلوي، بجوار غرفتي تماماً. التفت إلى… Read More الفصل الرابع والثلاثون. حتشبسوت النبيلة April 26, 2023April 29, 2023 للأسف، لم يتبدل شيء، في مصر، سرعان ما عادت ألارا إلى سابق عهدها. لطمة دوت… Read More Leave a Reply Cancel replyYour email address will not be published. Required fields are marked *Comment * Name * Email * Website Save my name, email, and website in this browser for the next time I comment. Δ
زلزال تركيا 6-2-2023 April 26, 2023April 29, 2023 حتى اليوم لم أستوعب بعد، كيف يمكن أن أفقد هذا القدر من البشر الذين عرفتهم… Read More
الفصل الحادي عشر. الأزقة لن تنساكم April 26, 2023April 29, 2023 -ستنامين منذ الليلة في غرفة خاصة بك في الطابق العلوي، بجوار غرفتي تماماً. التفت إلى… Read More
الفصل الرابع والثلاثون. حتشبسوت النبيلة April 26, 2023April 29, 2023 للأسف، لم يتبدل شيء، في مصر، سرعان ما عادت ألارا إلى سابق عهدها. لطمة دوت… Read More