April 26, 2023April 29, 2023 الفصل الثالث. طقوس النجاة أيام منذ وقعت الفاجعة، لم تفلح محاولات الأب وهريدي الحثيثة في الحفر، على الوصول إلى مصطفى، لا أثر له لا صوت، قُضي الأمر. استدعى الحكيم الأب: كيف حالك يا حاج؟ أضاف الحكيم بنظرة عتاب، بلا انتظار سماع الجواب: أصوات حفركم الليلة مسموعة يا صالح، جيرانكم يتحدثون عن محاولاتكم الوصول للمدفن…. قاطعه الأب: بل نحاول الوصول إلى مصطفى، علنا نجده حياً. الحكيم: قلت لهم ذلك، لا يمكننا منعكم من محاولة إنقاذ ولدكم، لكن ها قد مر قرابة الأسبوع، هل تيقنت من استحالة نجاته؟! أطرق الأب رأسه إلى الأرض: للأسف -رحمه الله -لا أمل. -حسناً، توقف عن الحفر إذاً لا نود إثارة قلاقل في القرية، سنتعامل مع المدفن لاحقاً. أضاف: كيف حالك ابنتك تلك؟ -مفجوعة على أخيها، تبكيه طوال الوقت. -هل تبدل شيئاً في سلوكها؟ -نعم، تبدو كأنها أكثر جراءة، صرخت في وجهي صباح اليوم، قالت أنت سبب ما حدث لمصطفى. -سوف آتي إليكم الليلة، لا بد من فحصها، ما أخشاه أن تكون لعنة ما قد استقرت بها. في المساء جلس الحكيم بقبالة فاطمة، كاشفة غطاء وجهها، سمراءٌ تخلل شيء من اللون الأحمر وجنتاها، دماء الخوف تتدفق في وجهها، أو لعلها دماء الغضب، عيناها الحُور شفتاها المكتنزتان ملامحه الرقيقة الناعمة، صبية يافعة، تجلس أمام عجوز في السبعين، لديه كامل الصلاحيات؛ ليقرر ما يشاء بشأنها. أمسك عينيها بأصابعه، فتحهما بدأ ينظر فيهما كأنه يبحث عن شيء ما، ثم بدت على وجهه نظرة غريبة، أفلتها عاد بظهره إلى الخلف، واتخذ قراره سريعاً، لقد سكنتها لعنة القدماء. هرج ومرج في الغرفة، احتضنتها الأم، الأب مذهول، زينب لا تفهم ما يجري حولها! إلا أن خيالات تراءت لها، عن فتاة قيل أن لعنة سكنتها، نهاية شنيعة! كانت تلعب حين خرج الرجال ممسكين الفتاة مكبلة بالحبال، نحو فرن مشتعل، ركضت خلفهم لترى ما سيحل بها، أمسكتها أمها رجعت بها للمنزل لم ترد إليها أن ترى ما سيحل بها. الأم: يا حكيم أرجوك لا تفجع قلبي بها بعد مصطفى. الحكيم: سأبذل جهدي. الأب: علينا إنقاذها بأي ثمن. على باب البيت، همس الحكيم للأب: اسمعني يا حاج صالح، إنها لعنة رعناء، من أقوى اللعنات، سكنتها روح شريرة، تعلم أسرار المدافن كلها، لن نسمح لها أن تفضحها على لسانها ابنتك يجب أن تموت حرقاً، أو تدعني أحاول معها. -لن يحدث هذا، ستنجح، أنا واثق أنك ستنجح في علاجها، لقد فعلتها من قبل، صحيح؟ -نعم… تردد نبس برهة أكمل “لكن الطقوس ستكون قاسية عليها، أخشى ألا تحتملها علينا المحاولة”. -حسناً متى نبدأ؟ -غداً، تعال بها إلى منزلي خارج القرية، لا بد أن تتم الطقوس بلا ضوضاء، لو علم الأهالي بأمر لعنتها سيقتلونها قبل الصباح. في ظهيرة اليوم التالي، فاطمة في غرفة واحد من منازل الرجل، خارج القرية بعيداً عن الجميع رغم محاولتها ثني أبيها عن هذه الطقوس إلا أنه رفض، فالحكيم يرى أن لعنة استقرت بها، وحتى إن كانت ترى أنها على ما يرام، فهذا لا يقدم ولا يؤخر شيئاً فمنذ متى تعترف اللعنات بوجودها داخل إنسان، إنكارها هذا قد يكون دليل إثبات على وجودها لا دليل نفي. طلب الحكيم من الأب المغادرة، والعودة بعد ساعات، فلا بد من ابتعاد جميع من تربطهم بها صلة دم في أثناء إخراج اللعنة حتى لا تغادر جسدها لتستقر فيه، الطقوس مقدسة، لا بد من الحذر. فهذا النوع من اللعنات، يُفضل الانتقال من جسد إلى جسد آخر تربطه بينهما صلة دم؛ لذلك الأسرة كلها مهددة لا بد من ابتعاد جميع أفرادها بعيداً جداً عن المنزل في أثناء إخراجها. دخل الغرفة، فاطمة تجلس على حصيرة، جلس تلقائها تماماً. بنبرة الأب الحنون قال: اسمعيني يا فاطمة لقد سكنتك روح شريرة خبيثة، لعنة قديمة، لن تتردد بفضح أسرار الدفينة على لسانك ما أن تتمكن منك تماماً، وهذا ما لن يسمح به مجلس الحكماء، سيحرقك أهل القرية حية، على أمل التخلص من هذه اللعنة، نجاتك في طاعتي بكل ما أطلبه منك. فاطمة: يا حكيم، لا أشعر أن خطب قد حل بي! أنا كما كنت دوماً إلا أنني حزينة على مصطفى. -لن تشعري الآن وعندما تعلمين يقيناً من وجودها داخلك؛ سيكون جميع من في القرية علم كذلك وفات الأوان، لن يمكنني حينها مساعدتك في شيء لا بد من إخراجها، قبل أن تتمكن منك. -كيف ستفعل هذا؟ -هذه اللعنة تعاملت مع مثيلات لها من قبل، عيناك تتحدثان، هذه نظراتها وليست نظراتك يا فاطمة، هذه نظرات فتاة يافعة تبحث عن شيء، تريده، نظرات ملؤها الرغبة! -عن أي رغبة تتحدث؟ -ستفهمين لكن عليك أن تعلمي منذ الآن، أن كل ما سأفعله، فيه مصلحتك من أجلك لإنقاذك، فلست الشرير الذي ستظنين، ولا الشيطان الذي سترين. أزاح بنظره عنها، عاد به: الطقوس ستكون قاسية عليكِ، وعلى نفسي كذلك فلست راغباً بما سيجري، إلا أن إخراج هذه الفتاة التي سكنتكِ، أولوية مقدمة على كل شيء آخر، من أجلك يا فاطمة لأجل ألا ينتهي بك المطاف مُحترقة في الفرن حية، سيكون الأمر مؤلماً للغاية، فلا ميتة أبشع من هذه. ارتعدت جسدها رعش رعشة البرد بأحضان جبل أرعن أجرد، ما إن سمعت كلماته الأخيرة، فهو جادٌّ جداً، تعلم أن أهل القرية لن يترددوا لحظة في فعلها، فقد فعلوها سابقاً في غيرها. قالت: أرجوك يا حكيم أريد الحياة ما زلت صغيرة لا أريد الموت…لا أريد الموت … ليس بهذه الطريقة البشعة، ليس بهذا الألم. -ستتألمين قليلاً الآن، لكنه بالطبع أقل من ألم الفرن كثيراً. نهض عن الحصيرة، خرج من الغرفة، ثم عاد حاملاً بيده سوطاً. -كم عمرك يا هذه؟ تنظر إلى السوط بيده، بصوت مرتجف أجابته: أربعة عشر عاماً. رفع السوط، هوى به على ظهرها، صرخت بأعلى صوتها، ثم كرر السؤال: كم عمرك؟ -قلت لك: أربعة عشر عاماً. جلدة ثانية: كم عمرك؟ -أقسم بالله أربعة عشر عاماً، أرجوك توقف. جلدة ثالثة، رابعة، في كل مرة يكرر ذات السؤال، حتى استسلمت: كم تريدني أن أقول؟ -أريد معرفة عمركِ أنتِ، وليس عمر فاطمة. -عمري 25 عاماً، أي شيء تريده، هل ستتوقف الآن؟ -ما اسمك؟ -فاطمة. المزيد من الجلدات، يهوي السوط يشق ظهرها الناعم الصغير، وذات السؤال يتكرر: ما اسمك؟ -فاطمة… أقسم بالله اسمي فاطمة… ماذا تريدني أن أجيب؟ -اسمك؟ هل أنتِ فرعونية؟ تبكي… ترتجف… صرخت بأعلى صوتها: فاطمة، أقسم لك فاطمة. أغمض عينيه، يتحدث بكلمات غير مفهومة، لغة لم تسمع بها من قبل ثم قال: اخرجي من هذا الجسد. لم يحدث أي شيء، كرر الطلب اخرجي من هذا الجسد، لا جديد ثم عاود الجلد علت صرخاتها أكثر فأكثر. بعد دقائق من العذاب المتواصل غادر الغرفة عاد يحمل قدر ماء وقطن. بلا أي مقدمات، ولا حياء: اخلعي ثيابك! بذهول أجابته: ماذا! -سمعتي ما قلته، اخلعي ثيابك. -سأموت قبل فعل هذا… أين أبي؟ أريد أبي! -لا تخافي، سأطبب جراحك. -لا أريد ستفعل أمي هذا دعني أعود إلى المنزل، أين ذهب أبي؟! بنبرة حنونة رقيقة: يا فاطمة، دعيني أفعل هذا، قلت لك منذ البداية، لست الشرير الذي سوف تظنين، هذه اللعنة تتحكم بك، تسيطر عليك، لا بد من طاعتي، وإلا….. -لن أفعل هذا، لن ترى جسدي مهما حاولت! بلا مقدمات انقلب حاله مجددا وعاد السوط يعمل على ظهرها أكثر قوة بلا رحمة، المزيد من الجلدات، فاطمة تتلوّى ألماً على الأرض: أرجوك توقف، توقف. حمل سكيناً عن المنضدة، قال: سأذبحك من جديد، كما ذبحوكِ في ذلك السرداب، إن لم تفعلي. -أرجوك، دعني وشأني. اقترب منها وضع السكين على رقبتها سأذبحك من جديد يا ملعونة، سأطاردك أينما ذهبتي، سأذبحك كلما وجدتك لا مكان لك هنا هيّا اخلعي الثياب. استسلمت جسدها يرتجف التفت بوجهها نحو الجدار، بدأت على استيحاء تخلع عباءتها، الدماء تغطي ظهرها وعلامات الجلد. تقدم الحكيم منها، أغرق القطنة في الماء، بدأ يطبب جراحها برفق. -مسكينة أنت يا فاطمة، جشع أبيك قتل مصطفى، جعلك في هذه الورطة، لا تقلقي يا صغيرة، سأعمل على إنقاذك مهما كلفني الأمر. أضاف: هل ستقولين ما اسمك؟ صامتة لا تعلم ما تجيب! -لا تخافي، لن أؤذيك أكثر، كل الذي أريده معرفة اسمك وفقط. بدأ عقلها يُفكر خشيت أن تقول له فاطمة، فيعاود جلدها من جديد، قالت: لا أعلم نسيته! -يا مسكينة، آلاف السنين في ذلك السرداب، كفيلة بجعلك تنسين أسمك بالتأكيد لكن حاولي… حاولي التذكر لا تخافي مني. صمتت أغمضت عينيها قالت: حتشبسوت، اسمي حتشبسوت. أضاف ويديه تطبب جراحها: ما الذي تريدينه مقابل خروجك من هذا الجسد يا حتشبسوت؟ تبكي بصوت ينتحب: يا حكيم، أنا فاطمة، لا أشعر أن في داخلي شيئاً آخر. بصوت رقيق ونبرة أكثر حنية: حسناً، أخبريني بما تريدينه يا فاطمة؟ -أريد العودة إلى المنزل. رمى القطنة من بين يديه بدأ يحرك أصابعه على ظهرها برفق، شيء غريب يحدث أحست به! قال: إياك أن يعلم أحد بما يجري بيننا هنا، لن يصدقك أهل القرية ولا حتى أهلك فاللعنات تكذب دوماً، تثير الفتن بين الناس فأنا الحكيم لن يُكذبوني ويصدقون لعنة خبيثة. تنفست بسرعة خائفة مرتعشة من شيء ما، أصابعه على ظهرها لا تقول خيراً، سألت: لم تقل هذا؟ -لقد سكنتك لعنة إنسية، روح شريرة داخلك، بدا جلياً أنها لن تخرج إلا بطقوس خاصة، كنت أعلم منذ البداية، لكني فضلت تجربة السوط، لعله يفلح. أضاف: للأسف لم ينجح الأمر، لا بد من الطقوس وإلا ليس أمامنا إلا الفرن، سيحرقك أهل القرية حية إن أخبرتهم أنني عاجز عن إخراجها. بحرقة ألمها باكية خطب ما قد يحدث، قالت: وما هي الطقوس؟ -ستعلمين كل شيء، ما سكنتك روح منحرفة، فتاة شبقة لا تكتفي من الجماع، ذُبحت في السرداب عقاباً لها قبل الآلاف السنيين، تريد شيئاً مقابل خروجها. أغمضت عينيها بحسرة: وما الذي تريده؟ -أن تشبع شبقها وشهوتها -ما يعني هذا؟ -اخلعي ما تبقى من ثيابك، ولا تجادلي، وإلا…. فهمت. صغيرة لكن النوايا باتت واضحة وضوح الشمس، زحفت على الأرض، تحت قدميه، تقبلهما بتذلل: أرجوك، أرجوك دعني وشأني، أريد أبي، أين ذهب!! حملها ثبتها بإحكام بدأ ينزع ثيابها عنها فكلما قاومت جلدها أكثر وكلما جلدها أكثر، نادت أباها مستنجدة أكثر، أبي، النجدة، بلا إجابة. بعد دقائق من العذاب، استسلمت لمصيرها، ضمها إليه، ضبع تمكن من فريسته، خنزير ينهش جسدها، رائحة فمه كريهة كرائحة جيفة نتنة، من بين ثنايا جسده تفوح رائحة مقرفة، ككل شيء آخر فيه، فعل بها فعلته، هتك عرضها، باسم اللعنة، وباسم مجلس الحكماء. قبيل المغيب عاد الأب، لم ينجح الحكيم في إخراج اللعنة اليوم، فهي لعنة إنسية، وُجدت نتيجة ذبح إنسان وهذه اللعنات تحتاج وقتاً أطول في التغلب عليها. بالكاد تستطيع الوقوف، نظر لها، مُعذبة، علامات جلد السياط، الدماء على عباءتها ضمها إليه لا تقلقي يا ابنتي لقد جلد الحكيم اللعنة لا بد من السوط لتغادر جسدك إنه عالم بأسرار القدماء عاجلاً أو آجلا سينجح في إخراجها منكِ لا محالة. فاطمة صامتة لا تنبس ببنت شفّة، لا تشيح نظرها عن الأرض، مخذولة ضعيفة لم تتجرأ على إخباره أو إخبار أحد بما جرى، فمن ذا الذي سوف يصدقها! فالعجوز الحكيم، مُصدق فوق الجميع، فضلاً على تصديق فتاة مسكونة بروح شريرة، تتحدث على لسانها. هذه اللعنة رعناء لن تخرج من جلسة واحدة، لا بد من إشباع شبق هذه الروح التي لا تشبع، ولا بد من إحضار فاطمة إليه على نحو متكرر؛ لإنهاء طقوس العلاج، وطقوس النجاة من الفرن. بعد يومين، قال الحكيم، أعدها إلى هنا بعد يومين. في المنزل، طببت الأم جراحها، فاطمة تبدو مهيضة الجناح مكسورة الإرادة مغلوب على أمرها وشيء آخر عيناها تتحدث عن خطب ما! سألتها: يا ابنتي أخبرني بما جرى، هل من خطب؟! إلا أن فاطمة صامتة منذ رجعت، ترفض الكلام يبدو أنها ترفض الاستماع كذلك، كأنها لم تسمع أمها أصلاً. غادرت الغرفة تاركة إياها مع زينب، علها تنجح في دفعها إلى الكلام، أو ربما النوم قليلاً. في الغرفة المجاورة: يا صالح إنها ترفض الكلام كأنها لا تسمعني. -إنها اللعنة، قال الحكيم أن نراقب جميع تصرفاتها، تنبأ بتغيرات ستجري لها، ستبدو عصبية المزاج، جريئة على غير المألوف، إنها اللعنة، تقاوم. -هل سيعاود جلدها من جديد؟ -انتهى أصعب يوم، قال: إن التالي لن يكون بهذا السوء. في الغرفة زينب تجلس بجوارها على الفراش تبكيها قالت: لقد انتهى الأمر يا أختي -الحمد لله. تحدثت فاطمة لأول مرة منذ عودتها بصوت مكسور كشف عناء ما جرى لها: لم ينته يا زينب، هذا الأمر لم ولن ينتهي. -لمَ تقولين هذا؟ -طلبني بعد يومين، سيكرر فعلته هذا الخنزير!! -الحكيم؟ هل نعتيه بالخنزير تواً؟ احمر وجهها -بنبرة غاضبة -همست: بل خنزير يا زينب، لقد هتك عرضي. فغرت زينب فاها، لم تستوعب ما قالت أختها قفزت عن السرير، تلفتت حولها، ركضت نحو الباب أغلقته عادت إلى جوارها، قالت بصوت خافت: ما الذي قلتيه يا فاطمة؟ كررت: لقد هتك عرضي بعد أن جلدني طوال اليوم، عذبني، ثم اغتصبني. انهارت بالبكاء، بدأت تنحب بصوت مرتفع وتكرر: هتك عرضي يا زينب… هتك عرضي. وضعت زينب يدها على فمها، توقفي، فاطمة أرجوك اصمتي، سيسمعك أبي. بعد أن هدأت قليلاً، قصت لها كل ما حدث، بالتفصيل. منذ لحظة دخولها، أسلوب الأب الحنون الذي بدأ حديثه به، لمح لنواياه، لكنها لم تفهم منذ البداية، قال، لست الشرير الذي ستظنين، ولا الشيطان الذي سترين. وكلما تحدثت أكثر، بدت مرتاحة أكثر، ثم فجأة على حين غفلة، يعود النحيب في صمت، وعلى هذا المنوال، ما بين لحظة هدوء وانهيار، قصت كل شيء. فاطمة: لقد هددني بالذبح بالسكين. تحسست رقبتها بيدها كأنها تختنق، قالت: وضعها على رقبتي أراد قطع عنقي إن لم ألبِّ رغبته بعد أن قلت له أنني حتشبسوت، وعمري خمس وعشرون عاماً. سألت زينب متعجبة: من هذه؟! فاطمة: سمعت أنهم قبل أعوام قليلة، اكتشفوا مومياء ملكة عظيمة في الأقصر، ليس بعيداً عن هنا، في مقبرة الملوك، كانت من أعظم ملوك الفراعنة جميلة جداً اسمها “حتشبسوت”. صمتت لحظات ثم أضافت: مع العذاب الذي أذاقني إياه، فكرت أن النجاة لن تكون إلا بالاعتراف بما يريده، سألني إن كنت فرعونية، فأول ما تبادر إلى ذهني هي الملكة، قلت له اسمي حتشبسوت، طالما فكرت بها قبل النوم سيطرت على ذهني، ظننت أن اعترافي بروح حتشبسوت تسكنني سوف ينهي العذاب. بدأت تنتحب من جديد: لكن شيئاً لم يتغير، أصر العجوز على أن حتشبسوت داخلي لا تشبع من الجماع، وأنها تريد الجنس مقابل خروجها، ثم هتك عرضي. زينب: وماذا سنفعل الآن؟ -لا أعلم، سيقتلني أبي إن علم بما جرى، سيدفن هذا العار الذي لحق به بسببي. ببراءة الطفلة قالت: سأذهب معك في المرة التالية، لن يتجرأ على الاقتراب منكِ بوجودي. تقدمت نحوها، احتضنتها: لا يا زينب، لن أسمح لهذا الدنيء أن يراكِ، لا مناص من العودة إليه، لعل الله ينجيني من بين يديه بطريقة أو بأخرى. طوال أسابيع تلتها، أخذها الأب إلى الحكيم رغم أنها باتت خاضعة ومستسلمة لمصيرها كل مرة أكثر، إلا أنه أصر على جلدها وضربها من حين إلى آخر، قال إنها طقوس لا بد منها هذه الطقوس التي جعلتها تمتعه، وتشبع شهوته. كلما توسلت له أن يتوقف، جلدها أكثر، حتى باتت تواجه العذاب بالأنيين في صمت، ثم ينقلب حاله فجأة، بلا سابق إنذار، يصبح رجلاً ودوداً لطيفاً محباً حنوناً! يعود ذلك الحكيم فتعود نبرة الأب الحنون الرؤوم. -يا فاطمة أنا لا أفعل ما أفعله إلا لأنها تريد ذلك، تريد الجماع، والشذوذ الجنسي وما أفعله هو إرضاء لها، ففي مرحلة ما ستكتفي، وما إن تفعل حتى تغادرك بلا عودة، لا تغضبي مني أتعذب كما تتعذبين، مجبر على فعل هذا، لإنقاذك من الموت. ثم يحتضنها كمحب حنون، يطبب جرحها وبعد دقائق يشدها إليه يقبض نهديها فتبدأ الطقوس، لا شعورياً تبدي اتجاهه امتعاضاً اشمئزازاً، لتبدأ نوبة العذاب من جديد، عقاب لها على ما بدر منها. باتت تدرك أن عليها تصنع الرغبة فيه والشوق إلى فرجه، لإرضائه فهذا العجوز النتن يعاني النقص، يشتري الحب مقابل رفع العذاب والنجاة خبيث لئيم حقود يتلاعب بها كأنها دمية، يضربها تارة ويطبب جراحها تارة أخرى. أصبحت تعلم جيداً كيفية إرضائه وإمتاعه ورغم ذلك لم تتوقف نوبات العذاب لكنها بطبيعة الحال باتت أقل عن ذي قبل، إلا أن هذا العجوز، كالبركان، لا تعلم متى ولِمَ ستتفجر حممه في وجهك؟ وإذا لم يطلبها ليومين أو ثلاثة، عاشت في قلق وخوف تسأل نفسها. لمَ لم يطلبني؟ ما الذي جرى؟! هل أخطأت في شيء؟! لعله اكتفى مني، لعله سيلعن عجزه عن إخراج اللعنة، والفرن مصيري. تلهفت الذهاب إليه، ففي هذه المرحلة، يصبح الإنسان عاجزاً عن تقييم مشاعره الحقيقية، هل بات متعلقاً بجلاده، يود العودة إليه يريد إرضاءه لكونه الحنون الطيب الذي يطبب جراحه، ويسهر على إنقاذ حياته، أو يكرهه، وخائف من البعد عنه ويظن أن لا مناص منه إلا إليه. مشاعرها هذه، كل ما جرى معها ويجري بقي حبيس صدرها، لم تبح به إلا لزينبَ، التي عاشت معها مجريات الأحداث يوماً بيوم، تألمت كثيراً عرفت تفاصيل أكثر. فقد بدأت فاطمة تعتاد الأمر تدريجياً، أصبح روتين بالنسبة لها، روتين لا بد أن ينتهي يوماً ما، وإلى ذلك الحين، لا بد من كتمان ما يجري، علّ الله يجعل لها مخرجاً. بالنسبة للعجوز، فليس على عجلة من أمره، لقد باتت تدرك أن حياتها معلقة به، حتى أصبحت أقصى غايتها ومنتهى مرادها إرضاؤه فقط. الأب، الأم، لا يسألون عن سبب تأخر شفاء هذه اللعنة! عن سبب تأخر فاطمة كلما ذهبت إليه، عن علامات الجَلد والحرق على جسدها، فاللعنة قد سكنتها -بالتأكيد- فهم يرونها تتغير يوماً بعد يوم نحو الأسواء، اللعنة تتمكن منها تدريجياً. لم تعد فاطمة التي يعرفونها، باتت عصبية جداً تكسّر الأشياء، تُصاب بنوبات جنون، شيء ما يؤثر فيها يفقدها صوابها، لا بد أنها اللعنة من تفعل هذا فقد صدق الحكيم، روح شريرة سكنتها ولم تفارقها برحت على صدرها بلا استئذان. لم يسألوا أنفسهم حتى، إن كانت فاطمة تتغير نتيجة طقوس العلاج القاسية عجبا! أو إن كان ذلك العجوز يفعل بها شيء يدفعها للجنون، فقد سيطرت اللعنة على تفكيرهم -لا يرون غيرها- بات كل ما تقوله الفتاة وما تفعله مرتبط باللعنة، التي ربما سكنت عقولهم هم، بل جميع سكان القرية، منذ زمن طويل، إلا فاطمة! فمن يدري؟! يتعبدون طوال الليل، يصلون لله شكراً على نعمة الحكيم، الذي يعمل بجهد على إنقاذها، يدعون الله أن يتمكن من علاجها، فهذا الرجل المعطاء، الصابر المثابر، لا يكل ولا يمل، رغم أن الحل بسيط -الفرن- إلا أنه رجل نبيل، فارس شهم من عصور الفراعنة الغابرة، لن يدعها تحترق بهذه السهولة، فها هو يحاول بكل جهد -بالمجان- لم يطلب أي شيء بالمقابل، نعمة من نعم الله عليهم. زينب؛ عاشت مع أختها تفاصيل كل ما يحدث لها، حكت لها فاطمة كل شيء في كل مرة عادت بها من عند الحكيم، فلا أحد يمكنها البوح له إلا هي. طفلة في العاشرة من عمرها، تعيش قصة فاطمة وحتشبسوت، ذلك العجوز يوماً بيوم بكل تفاصيلها. بعد شهرين من الجلسات الروتينية الشبه يومية، زف الحكيم البشرى للأهل، خرجت الروح منها، نجحت في إنقاذ الفتاة لكن ما زال الخطر قائماً، قد تعود لها في أي لحظة، إنها تحوم حولها طوال الوقت -لن تتركها- أحبّت دمها، لا بد أن تبقى الفتاة بقربي طوال الوقت. -وكيف لهذا أن يحدث؟ -الحل بسيط، زوجوني إياها، لكم من الذهب والمال قدر ما تشاءون، فهذا من حقكم، رغم أن زواجي بها؛ لحمايتها وحمايتكم، وحماية للأسرار، إلا أنني لن أمنع عنكم مهرها. تحدثت له في آخر زيارة علاج: لمَ تريد الزواج مني؟! دعني وشأني، لقد قلت الأمر قد انتهى! -يا فاطمة، هل فقدت عقلك؟ ما الذي سيحل بكِ بعدي؟ من سيتزوجك؟ لم تعودي فتاة بكر، سيطاردك العار طوال حياتك قد يقتلونك إن شكوا في أمرك، لا بد من الزواج بك الآن، تبقين معي حتى أموت، سيكون عمرك أطول من عمري، عندها تزوجي من تريدين. يا له من حكيم طيب معطاء! تحامل على نفسه، وهتك عرضها طوال شهرين لعلاجها! ها هو يتحامل على نفسه أكثر، سيتزوجها، ويدفع الكثير من المال للأب ليقبل ذلك، حتى يُصلح الضرر الذي تسببت به طقوس العلاج، تلك التي أنقذت حياتها ويترك أمل لها بالزواج من غيره بلا أي فضيحة بعد موته. هذه الحكمة، لم ترها فاطمة إلا خبثاً ومكراً لعلها هكذا فعلاً، فمن أين كان له أن يجد من تقبل به أصلاً! فضلا عن فتاة كالوردة في الرابعة عشر من عمرها؟! ففي هذه البلاد الرجال يحتفظون بفحولتهم يعمرون طويلاً، طويلاً جداً، ليس من المستغرب أن يُتم العجوز عامة المائة وأكثر ربما عندها فقد ضاعت زهرة شبابها، وربيع عمرها، على أمل موته الذي قد لا يأتي قريباً. اعترفت لأمها، كل ما جرى، توسلت تصديقها، يا أمي هذا العجوز فعل بي كذا وكذا. -تباً يا ابنتي هل عادت الروح لتسكنك من جديد؟ -بذهول شديد رقة: أقسم لك يا أمي هذا ما جرى!! -لن يصدقك أحد، وإن صدقك سيقتلك أبوك في الحال، فهذا العار لا يجتمع مع الحياة أبدا، لا مهرب أمامك إلا الزواج منه، قضي الأمر يا ابنتي. -لكنه قال إنني قد شُفيت! فلما الزواج منه؟! -لقد دفع مهرك أضعاف ما توقع أبيك! لن يتراجع عن هذا القرار. -تباً له، قتل مصطفى بهذا الجشع، ها هو يقتلني! شخص واحد صدقها سلفاً، حاول الشد من عضدها، فكر معها بطريقة للنجاة، زينب. ويوماً بعد يوم، باتت فاطمة أكثر قوة، وجنوناً، استجمعت شتات نفسها، ما أن ابتعدت عن السوطـ، حكت لزينب أكثر، عن أسلوبه وطريقة تعامله معها، جلده لها بالسياط، محاولة ذبحها بالسكين، كيف ينقلب من الهدوء إلى الغضب بلا سابق إنذار، يجلدها ثم يطبب جراحها، يعاشرها كشاعر رومنسي قادم على فرس أبيض تارة، وتارة أخرى كثور هائج لا رحمة ولا شفقة في قلبه. إلا أن فاطمة لم تعد بكامل وعيها، بات بها مس من الجنون، من الصعب ملاحظته، إلا على من يعرفها جيداً. فبلا أي سابق إنذار، ينقلب حالها! من فتاة هادئة، إلى مجنونة تكسر الأشياء من حولها، لا يمكن لشيء أن يجعلها تعود للهدوء من جديد إلا اسم شخص واحد، الحكيم. فما إن تسمع اسمه، حتى تجلس في زاوية الغرفة، بلا حراك. شجعتها، لا تقبلي أن يستغلك هذا الدنيء أكثر، لن يصدقك أحد فالحكيم مُصدقك، بل حتى إن صدقك أبي، سوف يقتلك فورا، ويدفن هذا العار للأبد، هذا المجتمع لا يؤمن إلا بالذكور ورغباتهم، لن يعاقب نفسه، ولن يؤنبه ضميره كونه السبب بما حل لك، ولمصطفى، بل سيقتلك قبل أن ينفضح الأمر في القرية كلها، ليس أمامك إلا الهرب من هذا المصير. في ليلة الزفاف، استجمعت قواها، أطلقت فاطمة لساقيها الريح. صباحاً حتماً -الفرن- مصيرها لا شك مُكبّلة بالحبال تُساق إليه، ركضت زينب لترى ما سيحل بها، لم تتمكن الأم المكلومة من اللحاق بها، يهمون بحرق أختها. رمقت العجوز، ينظر إلى فاطمة نظرات شفقة وعتاب، لسان حاله يقول: لمَ فعلت هذا؟ أردت مساعدتك وهكذا تكافئينني! صرخت زينب بأعلى صوتها -توقفوا- توقفوا هذا العجوز مخادع كذاب، وقد….. لم تكد تُنهي جملتها حتى دوت لطمة على وجهها شقت جبينها، رجل بشنب عريض لا تعرف من يكون! اخرسي يا قليلة الحياء، هل بلغت بك الجرأة اتهام الحكيم بالكذب والخداع، يا لك من وقحة. اقترب منها الحكيم، حملق بعينيها بريبة وقلق، يتفحص شيئاً ما، عاد بظهره للخلف فزعاً، قال: تباً، يا لك من مسكينة، لا تقلقي يا صغيرة، سأحرص على أن تكوني بخير. موجهاً أوامره للرجال: أمسكوها جيداً، دعوها ترى ما سيحل بهذه الروح الشريرة، علها تتعظ. أغلق الأب باب الفرن، فاطمة تصرخ في الداخل، تقرع الباب، تتوسل، ثم صمتت للأبد هكذا ظن الجميع وعلى حين غفلة، دوت صرخة أخيرة، صرخة مدوية، وصل صداها مقابر قدماء البداريين. ثم سقطت زينب، مغشياً عليها… Share this… Copy Facebook Messenger Twitter Pinterest Linkedin Whatsapp Telegram 1Artboard 1 copy 2 Snapchat Skype Print Zainab’s Curse - Arabic Online Post navigation Previous postNext post Related Posts الفصل الخامس عشر. قمر ذات الدماء العثمانية April 26, 2023April 29, 2023 -تشبه جدتها كريمة! هذا ما كان ينقصني! قلت لكِ يا زينب الوقت غير مناسب للإنجاب،… Read More المقدمة April 26, 2023April 29, 2023 هذه الرواية، على الرغم من أنها ضمن سلسلة روايات ابن الفوضى، إلا أن أحداثها ليست… Read More الفصل السادس والثلاثون. حب في الجحيم April 26, 2023April 29, 2023 أعوام مرت على هذا الحال، ما الحياة إلا جحيم مُغلف بقشرة من النعيم، كل ما… Read More Leave a Reply Cancel replyYour email address will not be published. Required fields are marked *Comment * Name * Email * Website Save my name, email, and website in this browser for the next time I comment. Δ
الفصل الخامس عشر. قمر ذات الدماء العثمانية April 26, 2023April 29, 2023 -تشبه جدتها كريمة! هذا ما كان ينقصني! قلت لكِ يا زينب الوقت غير مناسب للإنجاب،… Read More
المقدمة April 26, 2023April 29, 2023 هذه الرواية، على الرغم من أنها ضمن سلسلة روايات ابن الفوضى، إلا أن أحداثها ليست… Read More
الفصل السادس والثلاثون. حب في الجحيم April 26, 2023April 29, 2023 أعوام مرت على هذا الحال، ما الحياة إلا جحيم مُغلف بقشرة من النعيم، كل ما… Read More