April 26, 2023April 29, 2023 الفصل الثالث والعشرون. التركماني النبيل الموت، معضلة شائكة، لا نعلم متى يأتي وكيف، وفي بعض الأحيان لا نعلم لماذا، صدمة على حين غفلة، في عامها الستون، سكتة دماغية حادة، توقف على إثرها عقل وقلب وجسد زينب عن العمل. لم يمهلها الموت حتى قول كلمة أخيرة، طلب المغفرة ربما من حسن والأبناء، عما فعلت بهم في حياتها، باغتها غفلة، بلا سابق إنذار. بكاها حسن كثيراً، ماتت بين ذراعيه، تنظر في عينيه، ذات النظرة حين كانت في السلة، طفلة في العاشرة من عمرها، عيناها تقول، أنقذني يا حسن، لكن الموت فوق الجميع، فلا الحرس ولا القصور، ولا تاريخ عائلته يمكنه منعه عنها، هذا ما لا يمكنني إنقاذك منه يا زينب. أرادت قول شيء، معقود لسانها، لا يمكنها نطق حرف واحد، لعلها تريد الاعتذار، كلمة وداع ربما، دمعة من عينها، أدركت أنها لحظة النهاية، استسلمت، سلمت الروح لخالقها، وأغمضت زينب عينيها للأبد. ألارا مصدومة لا تستوعب فقدانها، لم تحتمل وقع الأمر عليها، انهيارات عصبية متتالية، بكاء ونحيب مستمر، لن تتجاوز محنتها بسهولة، الجميع خائف عليها، مر أسابيع على موت زينب، وما زالت في عزلتها، ترفض الحديث، أو الخروج من غرفتها، رغم محاولاتهم. هناك في ليبيا، يتفحص سردار كل يوم صندوق البريد، لا رسائل، حسم قراره، ستنتهي هذه العلاقة، شيء مريب، فما الذي يمنعها عن إرسال صورتها وأي تفاصيل تثبت صدقها، إن كانت صادقة. بات مشوش غير متأكد منها، يحتاج المزيد من الوقت لتجاوز محنته الخاصة، نسيان صورة في خياله، وقصة حب عاشها عام كامل، مع فتاة يبدو أنها كاذبة. بعد ثلاثة أشهر على موتها، قررت ألارا أخيراً العودة إلى الحياة، رسالة مرمية في دولاب الملابس، وصلت بعد أيام من الفاجعة، قررت فتحها، كتبت رداً مختصر للغاية. “سامحني يا سردار، لم أرسل إليك منذ وقت طويل، لقد ماتت أمي، انهارت أعصابي، وحتى الآن ما زلت غير قادرة على تجاوز المحنة، أترقب بشوق رسالتك التالية، أعتذر من جديد على تجاهلي الرد “ بعد ثمانية أيام، في الصباح، ألارا جالسة تفكر فيه، تقلب في رسائله القديمة، صوت على درج البناء، خطوات تعرفها جيداً، لحظات ثم دق الباب، ذات طرقت ساعي البريد، هذا موعد التسليم في حيهم. من المستبعد أن تكون رسالة من سردار، فثمانية أيام تكفي لوصول رسالتها إليه، إلا أنها غير كافية لوصول رده، تشبثت بالأمل، ربما يحمل رسالة مستعجلة منه، نهضت مسرعة إلى الباب، بشغف وشوق فتحته، عله كتب شيء يريح قلبها العليل، ينسيها موت أمها لو للحظات، يأخذها في عالم الأحلام من جديد. ساعي البريد واقف أمام الباب. -مرحباً يا آنسة ألارا. نظرت إلى يديه، لا يحمل أي رسائل! -أهلاً بك، ما الخطب، ما من رسائل؟ -لا، لا رسائل لكم اليوم. أضاف كمن يكلم نفسه: هذا هو المنزل يا سيدي، مع السلامة. انتبهت إلى خيال بجوار الباب، تقدمت خطوة إلى الأمام، نظرت إليه، رجل في منتصف العشرينيات، طويل القامة، أزرق العينين، أسود الشعر، مرتب الهندام، حسن المظهر، جميل الوجه، لا يبدو من هذه البلاد أبداً، بالكاد تمكنت من رؤية ملامحه، لم يرفع عينيه فيها حتى، حين باغتها بلهجة عراقية واضحة. -مرحباً ألارا، أعتذر على تأخري، لم تصل رسالتك إلا بالأمس. لم تتفوه ببنت شفة، لم ترمش حتى، دموع شوشت رؤيتها، تريد الكلام، الترحيب بفارس الأحلام، لا يخرج من بين شفتيها إلا شهيق البكاء، لم تعد قدماها قادرة على حملها، سقطت أرضاً، أسندت ظهرها للباب، وضعت يداها على جبينها، أصابعها تتخلل شعرها الناعم كالحرير، انسدل ليغطي كثيراً من وجهها اللطيف، كانت تتوقع رسالة مستعجلة ليس أكثر، بضع كلمات في أفضل الأحوال، إلا أن هذا الشاب يأبى إلا أن يختزل معنى الرجولة. قبل يوم واحد، وصلت رسالتها إلى صندوق بريده في العمل، لم يعد إلى منزله حتى، لم يحزم حقائبه، تأبى الشهامة والمروءة إلا أن يكون عنواناً لها. قبل ساعة واحدة سردار هائم على وجهه بين الأزقة، لا يتمكن من الاستدلال على العنوان، وجد ساعي البريد أمامه، طلب منه اصطحابه إلى المنزل، مقابل إكرامية سخية. لا حاجة للصور بعد اليوم، آه كم كنت غبياً يا سردار، كانت لتظلم نفسها إن أرسلت صورتها، فلا صورة في هذه الدنيا يمكن أن تصف جمالها. بريئة نقية كالثلج، حسناء كالقمر، مكلومة حزينة، مسكينة تعاني وحيدة، خائفة من الغد، تحتاج رجلاً قوياً ينقذها، يعيد لها الأمل في الحياة، يا له من خليط قاتل، لفارس نبيل شهم مثل سردار. بعد شهرين، قضى أغلبها في مصر، احتفال عائلي صغير، خطوبة ألارا، بعض أهل سردار قد حضروا لخطبتها، على موعد للزفاف بعد بضعة أشهر، لا بد أن يمر على موت زينب سنة على الأقل. قرر العريس أن عليه البقاء حيث عروسه، سيفتتح فرع لعمله في القاهرة، على حساب تصفية شركته في الأردن، ونقل جميع أمواله إلى هنا. اشترى شقة في منطقة المعادي الراقية، أثاث فخم، ومستقبل مشرق ينتظرها. ابتسمت الحياة لها، تجاوزت محنتها لأول مرة، سعيدة تهيم فرحاً هنا وهناك، وكأنها أميرة بقيت حبيسة مخدعها دهراً من الزمان، إلى حين أتى الفارس بفرسه الأبيض؛ ليطير بها في عالم لا يغدو أكثر من أحلام للكثير من بنات جيلها، إلا أنه لها، واقع تراه أمام عينيها، وتعيشه كل لحظة. زادت تألق وجمالاً، يوماً بعدَ يوم. بات فؤاد صديقاً مقرباً منه، أعمارهم متقاربة، وأفكارهم كذلك، الأهم هو أن فؤاد أكثر إخوة ألارا قرباً منها، علاقتهما متينة للغاية. شيء واحد مقلق بشأنه، شاب في التاسعة والعشرين من عمره، متزوج منذ أعوام، من زميلة مصرية له في أيام الدراسة الجامعية، لم يُرزق بمولود بعد، يسكن في الشقة المقابلة، متهور نوعاً ما، يحمل الكثير من الأفكار الثورية، وأكثر قليلاً من الأفكار. فهو منتسب لجماعة تعارض حُكم العسكر، وسياساتهم، استخدمها جمال عبد الناصر لحشد الشارع خلف الانقلاب على الملك فاروق، ثم غدر بها، جماعة الإخوان المسلمين، أكثر جماعة يمكنها تحريك الشارع في مصر، الكثير من منتسبيها باتوا نزلاء في أكثر سجون مصر وحشية، في ظروف لا إنسانية، عمه محمود واحد من هؤلاء النزلاء، وكثير من أحفاد الأمير إسماعيل، فكما يبدو أن الرجولة شيء يورث من جيل إلى جيل، وليست مجرد طباع مُكتسبة. -هيا يا سردار، لنذهب للصلاة في المسجد. -الآن يا فؤاد؟! سأصلي هنا، في المنزل، أتيت توي. احمر وجه ألارا خجلاً، فلا أحد في المنزل إلا هم. فؤاد، بروح فكاهة ونظرة خبيثة: هيا يا صديقي، إلى المسجد. بعد أن خرجوا، جلست ألارا في غرفتها، خيال يتقدم خلسة من خلفها، لم تنتبه له حتى، تفكر في فارس أحلامها، عرسها القريب. تقدم الخيال منها، بات خلف ظهرها مباشرة. صوت امرأة: أراد البقاء معكِ، عله يسرق بعض القبلات إلى حين عودة أخيك. -أعلم ذلك، حتى فؤاد أدرك هذا، سنتزوج قريباً، من الأفضل الانتظار. -لا يبدو أنه يطيق صبراً. -عليه التحلي به، لن يمس شعرة بي قبل الزواج. -ولكنه خطيبك، من حقه الاختلاء بك، يحبك بجنون. ضاق صدر ألارا ذرعاً بما تسمع، قالت بغضب: إن كان يحبني عليه الانتظار إذاً، هذا الأمر منتهٍ. بغضب قال صوت المرأة خلفها: الانتظار؟ ولمَ الانتظار؟ إنه خطيبك!! أضافت بعد تنهيدة غاضبة: قبل يومين تذرع برغبته أن تذهبي معه لرؤية طريقة ترتيب الأثاث في شقتكم الجديدة، إلا أنكِ بلا ذوق، رفضتي، أي طفل يعلم أنها كانت مجرد ذريعة، يود الاختلاء بك، لكنكِ فضلتي مشاهدة فلم في السينما على هذا! ما بكِ يا ألارا، تكبد الكثير من العناء في سبيلك، نقل عمله إلى هنا، وحياته كلها، من حقه أن تسعديه بعض الشيء، إنه شاب يتوق شوقاً لخطيبته الفاتنة. ألارا: أعلم، ولهذا رفضت، لن يمسني إلا بعد الزواج. بنبرة تحدي، الصوت: بل قبله، غداً لن تذهبوا إلى السوق، بل إلى الشقة، ستجعلينه يهيم في عالم لا ينتهي من المتعة، والشوق. ألارا بنبرة غاضبة ساخطة: اصمتي، لا أريد الجدال في هذا الأمر بتاتاً، القرار قراري، لست مثل أمي، لن أنقاد لكِ كما كانت. أضافت: عليكِ أن تعي هذا جيداً، ألارا ليست زينب يا حتشبسوت، ابتعدي عني وعن سردار، لن أسمح لك بتدمير حياتنا، كما دمرتِ حياة أمي وأبي. حتشبسوت منزعجة، قلقها يزداد كل يوم، ألارا عنيدة جداً، لا تطيعها، تريد السيطرة عليها، كبت جماحها، لا مجال للمساومة معها، تنظر لها وكأنها جارية عندها، خادمة، لا رأي لها ولا قرار، إلا ما تراه وتقرره هي فقط، من أين أتتِ بهذا العناد، لم يكن من المفترض أن يكون الحال على ما هو عليه بينهما. فمنذ أن تجلت لها واقع أمام عينيها، في أثناء أشهر عزلتها حزناً على موت أمها، وهي لا تكف عن مناكفتها، عصيان أوامرها، تتحداها، متمردة بطبعها، حتى على حتشبسوت. ضاعت جهودها وزينب، أدراج الرياح، أعوام من التدريب والتجهيز تبخرت، منذ اللحظة التي وصلتها بها أول رسالة منه، فالحب يصنع المعجزات، يجعلنا أشخاصاً صالحين، مثاليين، متصالحين مع أنفسنا، ومع محيطنا، والعالم من حولنا. يغيرنا، ونتغير لأجله. Share this… Copy Facebook Messenger Twitter Pinterest Linkedin Whatsapp Telegram 1Artboard 1 copy 2 Snapchat Skype Print Zainab’s Curse - Arabic Online Post navigation Previous postNext post Related Posts الفصل الثاني. السرداب April 26, 2023April 29, 2023 -لا تخاف، تشجع وادخل، فالحبل متين -أرجوك أبي، إني خائف -قلت لك لا تخف يا… Read More الفصل الثاني والثلاثون. بيبرس بائع المثلجات April 26, 2023April 29, 2023 عندما يتعرض البشر للظلم والإذلال وقت طويل من الزمان، بأشكاله المختلفة، سواء أكان من فرد… Read More الفصل التاسع والثلاثون. الأزقة ما زالت تتذكر April 26, 2023April 29, 2023 ما زال في سيارة الأجرة، يفكر في خياراته، وخطته. صوت السائق: هل كان التحقيق في… Read More Leave a Reply Cancel replyYour email address will not be published. Required fields are marked *Comment * Name * Email * Website Save my name, email, and website in this browser for the next time I comment. Δ
الفصل الثاني. السرداب April 26, 2023April 29, 2023 -لا تخاف، تشجع وادخل، فالحبل متين -أرجوك أبي، إني خائف -قلت لك لا تخف يا… Read More
الفصل الثاني والثلاثون. بيبرس بائع المثلجات April 26, 2023April 29, 2023 عندما يتعرض البشر للظلم والإذلال وقت طويل من الزمان، بأشكاله المختلفة، سواء أكان من فرد… Read More
الفصل التاسع والثلاثون. الأزقة ما زالت تتذكر April 26, 2023April 29, 2023 ما زال في سيارة الأجرة، يفكر في خياراته، وخطته. صوت السائق: هل كان التحقيق في… Read More