April 26, 2023April 29, 2023 الفصل الثامن والثلاثون. الجواسيس الكبار العام 2008 ميلادياً، الموقع مطار صبيحة الدولي، مدينة إسطنبول، فتاة في السادسة والعشرين من عمرها، ترتدي لباساً إسلامياً محتشماً، يظهر عليها معالم الالتزام الديني، تقدمت إلى منطقة القادمين المخصصة للمواطنين حاملي الجنسية التركية، قدمت جواز سفرها إلى شرطي الجوازات. نظر إليه بتمعن، ثم نظر في وجهها، عاد النظر إلى الجواز مجدّدا، ثم إلى وجهها، تحدث باللغة التركية. -أهلا سيدة سولماز، يبدو أنكِ حصلتِ على الجنسية التركية مؤخراً، هل أنتِ من أصول تركية؟ -نعم. -مبارك لكِ، لكن عند الحصول على الجنسية وأنتِ خارج الدولة، لا بد من بعض الإجراءات قبل دخولك، إجراءات روتينية، تفضلي معي رجاء. انتقلوا إلى منطقة المكاتب الداخلية، تفضلي اجلسي هنا، تركها الشرطي في مكتب تابع لجهاز المخابرات الوطني التركي، إم آي تي، سلم جواز السفر إلى الضابط المسؤول، ثم غادر المكتب. بدأ الضابط عمله، أدخل معلومات الجواز في جهاز الحاسب، يقرأ، يحرك يده على لوحة المفاتيح، يقرأ شيئاً آخر، وبعد دقائق، التفت إليها، تحدث باللغة التركية. -أهلا سيدة سولماز، هذه إجراءات روتينية، أعتذر على التأخير، عندي بعض الأسئلة. -تفضل سيدي. -ما دراستك؟ وعملك؟ -درست الصحافة والإعلام، أعمل حالياً صحفية غير متفرغة، مع عدد من الصحف المتنوعة، بعضها صحف تركية. -هل سبق لكِ دخول تركيا مرة ثانية، بعد مغادرتك حين كنتِ طفلة؟ -نعم، قبل عامين، بجواز سفري المصري، بقيت أياماً فقط، قدمت خلالها طلب الحصول على الجنسية. -أنتِ من عائلة تركية مرموقة، كان جدك الكبير بطلاً عثمانياً، ولدتي هنا بعد لجوء أبيك إلى تركيا على إثر خلافات سياسية واجهها في مصر، توفي وأمك هنا أيضاً، غادرتي في السابعة من عمرك تحت وصاية عمتك، تتحدثين التركية بطلاقة، لمَ لم تفكري بالعودة للعيش هنا منذ وقت أطول؟ -كما قلت يا سيدي، كنت في رعاية عمتي، طفلة، لا أملك من أمري شيئاً، وعندما كبرت، كنت منشغلة بدراستي الجامعية، ثم العمل، لكن في نهاية الأمر، ها أنا ذا، قد عدت. -لمَ لم يحصل أبوك على الجنسية التركية، هل تعلمين السبب؟ -أظنه قد حاول، لكن حينئذ، لم تكن القوانين هنا تسمح بهذا. أضافت: الحمد لله، الآن اختلف الأمر، فكل من يستطيع إثبات أصوله العثمانية، له الحق بالمطالبة بها. -ماذا تنوين العمل في تركيا؟ -سأقوم بإعادة إحياء شركة السياحة التي أسسها أبي رحمه الله، بالإضافة لعملي في الصحافة. -أين مقرها؟ -ساحة تقسيم السياحية، مغلق منذ موته، إلا أنني تفقدته في زيارتي الأخيرة، مناسباً تماماً للعمل. -مع من ستعيشين؟ صمتت للحظة، تنهدت، قالت: مع أمي. أضافت: ليس تماماً، كما تعلم لقد ماتت أمي منذ زمن، لكنها امرأة أعرفها جيداً، بمثابة أمّ لي، وحيدة هنا لا أحد يرعاها، سأعيش معها، أو تعيش معي، لا فرق. -من أين تعرفينها؟ -قصة طويلة يا سيدي، إن كان لديك الوقت الكافي، فسوف أحكيها لك، ملخصها أني تعارفت عليها في مصر قبل ستة أعوام، كان لها بنت بمثل عمري، رحمها الله، ماتت منذ زمن، ومنذ ذلك الوقت اعتبرها أم لي وتعتبرني بنت لها، حدث بيننا الكثير من الأمور التي جعلت كلاً منا يستحق هذه المنزلة في قلب الآخر. صك أسنانه، حك جبهته، يُفكر في شيء، قال: لدي هنا ملاحظة صغيرة، قد لا تعني لكِ شيئاً، لكنها مجرد ملاحظة، هل صدف أن سمعتي باسم يلدز من قبل؟ -نعم، قصر يلدز، كان مقراً للسلطان عبد الحميد الثاني، زرته بصحبة والدي حين كنت صغيرة. -بالضبط، بناه السلطان، هل كان أبوك مهتماً به؟ -لا أظن، كانت زيارة عادية، حتى إننا لم ندخل إليه، شاهدته من خارج الأسوار. الضابط: هل سمعتي باسم يلدز في أي أمر آخر غير القصر؟ شيء مثل حلوى يلدز ربما؟ ضحكت: أعتذر سيدي، لا، لم أسمع إلا بالقصر. -ولا حتى جهاز يلدز للاستخبارات؟ -عفواً؟ ماذا؟ كرر الضابط: جهاز يلدز للاستخبارات، لم تسمعِ به من قبل في أي مكان؟ لم يتحدث عنه جدك مثلاً؟ -سيدي، جدي مات قبل مولدي، لم أره في حياتي. -ربما أبوكِ؟ -لا، أبداً، ثم إنه كان يعيش هنا، لمَ لمْ تسألوه قبل موته؟! ابتسم الضابط، نظر لها نظرة ثاقبة، قال: سيدتي، تلك حقبة وهذه حقبة مختلفة، كما قلتِ بنفسك قبل قليل، الكثير من الأمور قد اختلفت في تركيا الآن، والكثير مما كان ممنوعاً بات مسموحاً. قام بالضغط على لوحة المفاتيح، نهض على قدميه، أعاد لها جواز السفر. -تفضلي، أعتذر على تأخيرك، لكنها إجراءات روتينية، توجهي إلى منطقة القادمين مجدداً، سيسمحون لك بالدخول فوراً. بعد ثلاثة أيام، الموقع مطار أتاتورك الدولي، إسطنبول، توجه شاب في الثامنة والعشرين من عمره، إلى منطقة القادمين المخصصة لمواطنين من جنسيات مختلفة، قدم جواز سفره إلى شرطي الجوازات، نظر إلى جواز سفره، ثم إليه، تحدث باللغة الإنجليزية. -أهلاً سيد مروان، متى آخر مرة زرت بها تركيا؟ -منذ عامين. -هل تحمل جنسية ثانية غير العراقية؟ -لا، فقط الجنسية العراقية. قبض الشرطي وجنتيه بيده، يحك لحيته، ينظر إلى الشاشة أمامه، يُفكر بأمر ما. -من أين في العراق؟ -كردستان -أين تحديداً؟ -كركوك -كردي؟ -لا، تركماني -تتحدث التركية -لا متعجباً: كيف؟! التركمان يتحدثون اللغة التركية! -لم أعش في كردستان وقتاً كافياً، كنت طوال حياتي أتنقل بين دول عربية. -ما جنسية أمك؟ -مصرية، من أصول تركية، لا تتحدث التركية كذلك. قال الشرطي ممتعضاً، بنبرة سخرية: أتراك لا يتحدثون التركية. لم ينتظر سماع جوابه، رفع سماعة الهاتف، أجرى اتصالاً، تحدثت باللغة التركية، يسمع ما يقوله الطرف الآخر، أغلق الخط، ثم طلب منه بفظاظة الانتظار جانباً. بعد خمس دقائق قدم شرطي آخر، أخذ جواز السفر، أشار له اللحاق به، إلى المكاتب الداخلية. الضابط: أين أقمت في آخر زيارة لك؟ -فندق في ساحة السلطان أحمد، لا أذكر اسمه. -من كان معك؟ -لا أحد -من التقيت خلالها؟ -كثير من الناس، ليسوا أصدقاء، فكما تعلم أنا سائح، علاقات عابرة. الضابط: هل التقيت شاباً سورياً باسم وليد عبد الله؟ حرك عينيه، رفع رأسه، يحاول التذكر، قال: نعم، ربما التقيت أحدهم باسم وليد، لا أعرف اسم أبيه. -متى؟ -في زيارتي الأخيرة، يوم سفري، لا أذكر التاريخ. وضع الضابط جواز السفر جانباً، أراح ظهره إلى المقعد، يبدو أن هذه الجلسة ستطول قليلاً. -حسناً احكي لي عنه. -كنت في ساحة السلطان أحمد، أكل الذرة، جلس شاب مقابلي، تحدث باللغة العربية، تعارفنا، أذكر أن اسمه كان وليد ومن سوريا، شاب مؤدب، خلوق، استحسنت صحبته، كانت رحلة عودتي في المساء، عندي الكثير من الوقت لإضاعته، دعوته إلى الغداء، أمضينا اليوم سوياً. -عن ماذا تحدثتم؟ -شابان سائحان يا سيدي، تحدثنا حول كثير من الأمور، النساء بالطبع كان لهن نصيب الأسد. تنهد الضابط، تقدم بظهره إلى جهاز الحاسب، بدأ يضغط على لوحة المفاتيح. -في عام 2006، أتيت إلى تركيا سبع مرات، لماذا؟ -تركيا جميلة جداً، كنت آتي لأيام فقط، للسياحة. مستبقاً السؤال التالي: ولم أعد منذ عامين؛ لأنني كنت منشغلاً بالعمل. ابتسم الضابط بسخرية، أشار له بيده نحو الباب: انتظر في الخارج. بعد دقائق دخل شرطي المكتب، عاد يحمل جواز السفر، أعطاه إياه، أشار له أن يذهب على إلى رقم شباك منفذ دخول محدد، من هناك يمكنك إنهاء الإجراءات والدخول. مستقل سيارة أجرة، متجهاً إلى فندق في ساحة تقسيم السياحية في إسطنبول، ينظر من النافذة، يفكر فيما كان، وفيما يجب أن يكون. نعم، البدايات، تقرر مصيرنا، بلا شك. ماذا لو لم يُجبر الحاج صالح ابنه على دخول السرداب؟ لو لم تسقط فاطمة مغشي عليها؟ أو قبلت بالزواج من العجوز، ولم تحاول الهرب؟ ماذا لو تعثرت زينب بحجر صغير في أثناء جريها إلى الفرن؟ لتمكنت أمها من اللحاق بها، وما كانت لترى فاطمة تُحرق، وما كان الحكيم ليتفحص عينيها، وما كانت لتسقط مغشياً عليها. تغيير بسيط، بسيط للغاية، في الحالات الأولية لذلك اليوم من عام 1910 ميلادياً، ما كان على إثره ليكون لحتشبسوت أي وجود، وما كنت لعنة زينب لتكون. ابتسم فيما ما زال ينظر من النافذة، تشق السيارة طريقها عبر الجبال الخضراء. حدث نفسه ماذا لو وقع تغيير بسيط في ذلك اليوم؟! أجاب نفسه: لحسن الحظ، فقد حدث كل شيء بصورة مثالية، على أكمل وجه. الحمد لله أن أي تغيير لم يقع. ابتسم من جديد، همس بصوت خافت: ولن يقع. Share this… Copy Facebook Messenger Twitter Pinterest Linkedin Whatsapp Telegram 1Artboard 1 copy 2 Snapchat Skype Print Zainab’s Curse - Arabic Online Post navigation Previous postNext post Related Posts الفصل الثلاثون. كلمة بين شفتيه April 26, 2023April 29, 2023 صيف العام 1989 ميلادي مروان في عامه التاسع ألارا في عامها الثامن والثلاثين حين أتت… Read More كلمة الكاتب April 26, 2023April 29, 2023 لا، لم أكن نائماً ليلة الأمس في لحظة سلام نادرة، ولم يأتني ذلك الصوت في… Read More الخاتمة April 26, 2023April 29, 2023 يتبع…… اللحظة بيبرس حسناً لم يعد الأمر سراً، بات التاريخ 19-4، مثيراً للفضول! أعلم ذلك…. Read More Leave a Reply Cancel replyYour email address will not be published. Required fields are marked *Comment * Name * Email * Website Save my name, email, and website in this browser for the next time I comment. Δ
الفصل الثلاثون. كلمة بين شفتيه April 26, 2023April 29, 2023 صيف العام 1989 ميلادي مروان في عامه التاسع ألارا في عامها الثامن والثلاثين حين أتت… Read More
كلمة الكاتب April 26, 2023April 29, 2023 لا، لم أكن نائماً ليلة الأمس في لحظة سلام نادرة، ولم يأتني ذلك الصوت في… Read More
الخاتمة April 26, 2023April 29, 2023 يتبع…… اللحظة بيبرس حسناً لم يعد الأمر سراً، بات التاريخ 19-4، مثيراً للفضول! أعلم ذلك…. Read More