April 26, 2023April 29, 2023 الفصل السادس والثلاثون. حب في الجحيم أعوام مرت على هذا الحال، ما الحياة إلا جحيم مُغلف بقشرة من النعيم، كل ما يلزم الأمر، هو أن تلمسها؛ لتتدفق حمم براكينه في وجهك. مات الأب الطيب الحنون، وكبر الطفلان، عفواً، بل الأربعة أطفال، باتوا شباناً يافعين، يمكن الاعتماد عليهم. مروان على مقاعد الدراسة الجامعية، عامه الأول، كلية العلوم، تخصص الفيزياء، ذكي جداً، ينتظره مستقبل باهر في علم الفلك والنجوم. نوبيا، طالبة في المرحلة الثانوية، تعد الأيام شوقاً لتكون بصحبته في الجامعة. ألارا، تزداد جنوناً يوماً بعد يوم، وكلما تقدم بها العمر، باتت أكثر عدوانية، إلا أن سطوتها عليهم لم تعد كما كانت، فقد كبر الطفلان، لم يعد من السهل ضربهم أو عقابهم كما كان في أثناء طفولتهم. والأهم، أنه قد بات لديهم خبرة واسعة في التعامل معها، ومع جنونها، وكيفية الصبر عليه والتصرف حياله، ومتى عليهم الهرب منه. لم تعد جميع نوبات غضبها، ومحاولات إثارة جنونهم، تعود عليها بنفس النتائج المرجوة، فقد أصبحت أعصاب الاثنين وكأنهم في ثلاجة باردة، لا يمكن لشيء على وجه الأرض أن يستفزهما. وبشكل مثير للغرابة، بدا وكأن كل ما عانوه في طفولتهم، شيء مُثمر للغاية، لم تتمكن ألارا من تحطيمهم، بل صقلتهم، دربتهم، جعلتهم استثنائيين، على غير المتوقع. بات بمقدورهم الخروج من المنزل متى أرادوا، والعودة متى أرادوا، وبصورة أكثر دقة بات بمقدور نوبيا الخروج والعودة متى أرادت، بشرط، أن يكون مروان بصحبتها. وهذه ليست شروط الأم، ولا حتى شروط مروان، فلا وجود لأي شروط بشرية، إلا أنه شرط الحُب. فيوم بعد يوم، سنة بعد سنة، اكتشف الاثنان، أنهما خلقا ليكونا سوياً، للأبد. رابطة إضافية جمعت بينهما، رابطة الحُب، حُب في الجحيم. شيء آخر كبر معهم، شخصياتهم، ليس فقط بيبرس وسولماز، بل كل شخصية ثانية صنعوها. باتوا قادرين على تقمص الأدوار بصورة مدهشة، كأنهما ممثلان عالميان مخضرمان. اعتادت سولماز الذهاب إليه في جامعته القريبة، بعد انتهاء دوامها المدرسي، تنتظره في حديقتها حتى يُنهي محاضرته، يعلم أنها في الخارج، يهرع إليها، يجلسا سوياً، ثم يعودا إلى المنزل، في وقت متأخر بعض الأحيان، بعد جولة في الأسواق، الحدائق، غداء في المطعم، فنجان قهوة في المقهى، أو مشاهدة فلم سينمائي، بالطبع، كل جديد يتعلق بقصص الجواسيس، والإثارة والغموض. حدثها عن كل ما يتعلمه في الجامعة، أحبت الفيزياء بسببه، علم الفلك، المجرات، الكون الواسع الكبير. عاشقة حالمة، قالت له ذات يوم: يوماً ما، سنطير سوياً، يدي بيدك، بين النجوم والكواكب، نكتشف عوالم جديدة، سنعيش إلى المالانهاية، أنا وأنت فقط، لا أحد آخر سوانا، فلا أريد الحياة دونك، هذا قرار قلبي، لن يسمح لي الابتعاد عنك، فالعالم كله بلا وجودك، ليس فيه إلا الضياع. قال لها، لن نكون بحاجة للطيران بعيداً لاكتشاف أي عوالم جديدة، فالكون كله داخلنا، كل الذي علينا فعله هو اكتشاف أنفسنا، سأكتشفك، سأسبر غمار غموضك، سأبحر في عالمك اللانهائي، وهكذا ستفعلين، لدينا الكثير من الوقت، لن يفرق بيننا شيء يا سولماز، سأحبك أبد الدهر، سأبقى إلى جوارك، أحميكِ ما حييت. أحبت التنكر بزي رجل أحيانا، رشيقة، لطيفة معالمها، لطيف جسدها، صغيران نهداها، لا أثر لهما تحت قميص رجالي واسع، سروال جينز فضفاض، قبعة تخفي تحتها شعرها الناعم كالحرير، قصرته خصيصاً لتتمكن من هذا، نظارات سوداء، لحية وشارب مصطنع، مساحيق تخفي بريق وجهها، تراقبه من بعيد، محاولة بفضول النساء، إثبات تهمة الخيانة عليه، عله يكلم إحداهن، عله يختلس النظر حتى. صوت من خلفها -يمكنك خداع الناس كلهم يا سولماز، إلا بيبرس. التفت إليه، تنظر له بغضب. أضاف: تبدين جميلة، حتى بهذا الشارب الغليظ. يا إلهي! انظروا، ما خطب مروان؟! هناك ما الذي يفعله! هل فقد عقله؟ أم أصابه مس شيطاني! -الناس ينظرون إلينا بغرابة يا بيبرس. -دعكِ منهم، من يهتم لهم، أنتِ عالمي ومحور كوني الوحيد، لا رأي يهمني بعد رأيك. شاب يافع ذكي جميل طويل القامة، وغني. كثير من المعجبات حوله، لعله كان من نصيب إحدانا، لولا غروره وعزلته، يبدو مكتفياً من النساء، لا يريد أي علاقات، تحرس بوابة قلبه قصة حُبّ أزلية. هكذا قال بعض الفتيات، لكنهم لا يعلمون بالتأكيد، أن قصة الحب هذه، تخفي في ثناياها، الكثير من المعاناة، الألم، العذاب، دهر منها، وربما لولاها، ما كان شيء من هذا ليكون، وعلى إثرها، ولدت روح واحدة، في جسدين. الغيرة، ليست حكراً على النساء، أبداً، إلا أن غيرة الرجال لها وجوه مختلفة. كم مرة سكب عامداً متعمداً فنجان قهوته على قميص أحدهم، بما يبدو أنه نتيجة تعثره عرضياً، فقط لأنه رمق سولماز بنظرة إعجاب. لسان حاله يقول، إنها لي، وإني لها، إياك واختلاس النظر، فمن أنت! وما تعرفه عني وعنها، عما واجهنا سوياً، إياك وتكرر فعلتك. وكعادة النساء، أحبت إثارة غيرته في بعض الأحيان، مشاكسة، فضولية. -بيبرس، قبل قليل عاكسني أحدهم، كنت أمشي حين سمعته يقول لصديقه، أنظر لها آه كم هي فاتنة، ثم أصدر صوت تنهيدة غريبة، ملؤها الإيحاء. -أين هو؟! أين يجلس؟! -كان هناك، لا أعلم أين ذهب؟ وإن أرادت أثارت جنونه إلى أقصى حدودها. -بيبرس، يا إلهي، كدت أموت رعباً، أحدهم عاكسني بكلمة بذيئة قبل قليل! يحمر وجهه، تتدفق دماء الغضب، آه لو أنه ما زال موجوداً حيث كان، فقط لو تتذكرين كيف يبدو، من هنا، لنبحث هناك، لعلكِ تتعرفين عليه. عشرات الشبان يذهبون ويأتون، لم تتمكن يوماً من التعرف على أحد من هؤلاء قليلي التربية والحياء، من يرمون كلمات رقيقة، شاعرية، وحتى معاكسة بذيئة أحيانا، لها وعلى مسمعها. تعمدت الاقتراب منه حتى يلتصق جسدها بجسده، إن شعرت أن تهديداً خارجياً يقترب من حماها. تعمد إمساك يدها، كلما مشوا سوياً في أي مكان. أرادوا القول، لسنا مجرد أصدقاء عابرين، ولسنا مجرد أقرباء جمع بينهما القدر، كلا يا سادة، هذه خاصتي، وأنا خاصتها، نصفي الثاني، وأنا نصفها. ألارا ليست غبية، تعلم جيداً ما الذي يجري خلف ظهرها، تعمدت بصفاقة اغاظتها والإيحاء لها، بأمور مثل أن مروان شاب مراهق، سيتسلى بها قليلاً، ثم يجد فتاة غيرها بعد أن يسأم منها. بلغت روح الإذلال بها أن عابت على الفتاة كونها يتيمة، فقالت مراراً على مسامعها، لضيفه عابرة، أنها تود تزويج ابنها من فتاة لها أهل وعزوة، تربت بين إخوانها، وفي أحضان أبيها وأمها، وتعلمت منهم. تعمدت إثارة الفتنة بينهما، قالت له مراراً، لا تُعجبني أخلاقها، هذه الفتاة خبيثة، لعلي أخطأت حين أتيت بها، وما أدراني أنها ستكون هكذا! ثم تُلمح إلى أنها ربما على علاقة بفلان وعلان من الناس. وعندما لا يتجاوب معها، أو يرفض سماع ما تقوله، تتهمه أنه قليل النخوة، تباً لك، ليس لديك ذرة من رجولة، تمضي خلف فتاة غير سوية، تتلاعب بك، ثم تتبعها بضحكة سوقية من ضحكاتها الكثيرة. فليس لدى ألارا أي رادع، ولا شيء ممنوع، في سبيل الحصول على مبتغاها، التفريق بينهما، حتى إن لازم الأمر الطعن في شرف نوبيا أمامه، والطعن في شرفه أمام نوبيا. فيما مضى كانت محاولاتها هذه لتنجح، لولا أنهم باتوا ذا خبرة واسعة بها، تكذب، لا هم لها إلا تفريقنا، فهي إله الفتنة، الذي لا ينفك ويبث روح البغضاء والعداء بين الناس جميعهم. وبما أنها لم تعد قادرة على ضربهم وجلدهم كما كان الحال في طفولتهم، بدأت تشغل نفسها في إهانتهم، وبشكل خاص، نوبيا، كل يوم، في منتصف الليل، تمشي خلسة على رؤوس أصابها، نحو غرفة الفتاة، تقترب من الباب، تضع أذنها عليه، لا تسمع أي صوت، ثم تفتحه على حين غيره، لتجدها نائمة. تتعمد إصدار الضجيج في أثناء هذا، لتنتبه نوبيا أنها هنا، تستفيق من نومها، ما الخطب يا عمتي؟ تنظر لها نظرة مريبة، دون أن تتفوه بحرف واحد، تُغلق الباب. ثم تذهب إلى غرفة مروان، تتأكد من أنه في غرفته، ثم تنصرف في حال سبيلها. أرادت القول، أنتِ فتاة غير سوية، أخشى على مروان منكِ، علك تستدرجينه إلى غرفتك يوماً ما، فيقع في فخ معد مسبقاً، ويتورط بالارتباط منكِ للأبد. ذات ليلة، مروان ليس في أي مكان في المنزل، ركضت برعونة إلى غرفة نوبيا، فتحت الباب، كادت تخلعه، أرادت إثبات شيء أعياها التعب ولم تثبته، ثم بدأت بلا ذرة حياء التفتيش في الخزانة وتحت السرير. قفزت نوبيا فزعة: ماذا حدث يا عمتي! ما بكِ؟! -أين مروان؟ -ماذا؟ وما علاقة الخزانة بمروان؟ بعد لحظات دخل من باب المنزل، كان في الخارج. الأم: أين كنت؟ -التقيت زميلي في الجامعة، في الشارع أمام باب البناء، أعطاني بعض الأوراق. -بعد منتصف الليل؟ -نعم وما المشكلة؟ كان يراجع دروسه في مقهى قريب. انتهت مشكلته مع الأم، لكن بالطبع لم تنتهِ مع نوبيا، فمنذ دخل المنزل، وهي تنظر له كأنها وحش كاسر، على وشك الهجوم عليه، وتقطيعه بأنيابه، ليس فقط لما فعلت العمة بها، بل لأمر آخر كذلك. في اليوم التالي، لم تذهب إلى الجامعة، بحث عنها في المقهى الذي اعتادوا الجلوس فيه، لم يجدها، عاد إلى البيت، نوبيا جالسة في غرفتها. -ما الخطب يا سولماز؟ لم تأتِي اليوم. رفعت حاجبها، نظرت إليه من الأعلى إلى الأسفل، بسخرية، قالت: لا داعي لإزعاجك، بالتأكيد كنت بحاجة بعض الوقت مع صديقتك بعيداً عني، تلك التي تتسرب كاللصوص ليلاً خارج المنزل للقائها. أضافت وهي تشير بيدها له بمغادرة الغرفة: لا داعي للخروج في منتصف الليل، يمكنك لقاؤها في الجامعة قدر ما تشاء. ليلتها، لم يترك هاتفه النقال من يده، حتى الصباح، يكتب لها، يقسم أنه كان زميله في الجامعة، عشرات الرسائل المتتالية، ثم بعد ساعة كاملة، ترد عليه. -لا تكذب، من هي؟ نسرين؟ ميسون؟ عبير؟ ربما زينة، كلهن يختلسن النظر إليك، لا تظنني غبية نائمة على أذني لا أعلم بما يدور حولي. ثم يبدأ وابل من الرسائل يصل هاتفها. -زميلي يا عالم يا بشر يا كون أقسم بكل شيء إنه زميلي في الجامعة. وإن توقف هاتفها عن الرنين لبضع دقائق متتالية فقط! تثيره برسالة واحدة مختصرة مقتضبة. -ماذا تفعل؟ هل تتحدث معها؟ تضع الهاتف جانباً، ثم يبدأ الرنين، وابل من الرسائل، مكرر في أغلبها. بعد يومين، قررت الصفح عنه -سأغفر لك خيانتك، على عهد ووعد ألا تكررها. -تباً عن أي خيانة تتحدين؟! ثم وابل من الرسائل. بيبرس: لمَ ترفضي الاستماع، كانت أمي مستيقظة حين كلمني زميلي، تنبهت إلى، ناديت عليها، قلت إنني ذاهب لدقائق وسوف أعود، لم ترد، إلا أنها سمعتني، واثق من هذا، ما إن خرجت من المنزل، حتى فعلت فعلتها، أرادت إهانتنا كالعادة، والأهم، هو تنبيهك إلى أنني خرجت من المنزل في هذا الوقت المتأخر، وها هي منذ يومين، لا تتوقف عن التلميح إلى أني كنت خارج المنزل بصحبة فتاة، تزرع الفكرة في رأسك، بطريقة غير مباشرة، تريد إثارة الفتنة بيننا، هذا طبعها، لا تطيق رؤية اثنين متصالحين متحابين. سولماز: هذا لا يغير من الأمر شيئاً، أريد النوم. رسالة جديد: تصبح على خير، يا أخي مروان. -أخي؟ مروان؟ وما يعنيه هذا بالضبط؟! جن جنونه، تجاوزت الساعة منتصف الليل، إنها تتلاعب، لا بد من إجراء هذا الحوار وجهاً لوجه، رمى الهاتف جانباً، على رؤوس أصابعه يمشي، بلا أي ضجيج، يفتح باب غرفتها ببطء، ما أن شعرت بالباب، حتى أدارت ظهرها له سريعاً، غطت جسدها ودست الهاتف تحت الوسادة، أغمضت عينيها، بالتأكيد عمتي ألارا، لا داعي أن تراني مستيقظة حتى هذا الوقت المتأخر. تقدم منها، وضع يده على كتفها، يهزها، فتحت عيناها فزعة، لم تعتد على عمتها فعل هذا، قفزت من تحت الغطاء، يكاد قلبها ينخلع رعباً. تسمر في مكانه، يكاد قلبه ينخلع كذلك من هول ما يرى، ينظر إلى الأعلى. سولماز تقف على السرير، ترتدي قميصاً أسود منقط بالأحمر، بأكمام قصيرة، صدر مفتوح، ظهر منه رقبتها وشيء من صدرها، قصير غطى الجزء العلوي من جسدها حتى منتصف فخذيها، واسعاً فضاض على غير المعتاد، ياقته واسعة جداً، بصورة مبالغ بها، انزاحت نحو اليمين لتكشف كتفها بالكامل، وشيء من نهدها الأيمن. عقد حاجبيه، تنهد، قال: هل هذا قميصي الذي أضعته قبل شهر؟! انتبهت، نصف عارية، ألقت بنفسها على السرير، غطت جسدها بالغطاء، ثم وقفت في الطرف الآخر. -لقد رأيته، إنه قميصي، لا فائدة من الإنكار. -غبي، هل تظن أني غطيت جسدي لهذا؟! نظر إلى الباب، ثم إليها، بصوت خافت: لو يصدف أن تخرج أمي من غرفتها الآن في نوبة تفتيش ليلية، ستكون فضيحتنا غداً في جميع نشرات الأخبار. تنظر إلى الصالة بخوف: اذهب، أرجوك، قد تأتي فعلاً. -ما كان قصدك بقولك أخي مروان؟ -يا مجنون، كنت أثير أعصابك، أقسم لك، أعلم خبث عمتي، لست بحاجة لمن يخبرني. أدار ظهره متجهاً نحو الباب، ثم التفت إليها، لوح بأصبعه، همس لها: منذ شهر وأنا أبحث عنه، إنه المفضل عندي. لا داعي لأي صفح ولا صلح، ترتدي قميصه الذي سرقته لتنام به. في حين هي توبخه وتثير جنونه عبر الهاتف، كانت ترتديه، لم تكن غاضبة، تعلم صدقه، أرادت إثارته، وربما عقابه كذلك، فإن أردت الخروج مرة أخرى من المنزل ليلاً، فنبهني أولاً. في هذه الليلة، تكسرت الخطوط الحمراء. لقد شاهدها نصف عارية لأول مرة في حياته. والمهم أنها لم توبخه على فعلته هذه أبداً! لم تغضب حتى، لم تبدي أي رد فعل تشير إلى أنه تجاوز حدوده. بدا أن اقتحامه غرفتها بلا استئذان، ورؤيتها نصف عارية، أمر عادي لا غرابة فيه! لم يبدُ كأنه فعل شيء لا يحق له فعله. في الليلة التالية، بعد انتهاء نوبة التفتيش، دخل غرفتها، تَعلم أنه قادم سلفاً، استأذن عبر الهاتف أولاً، يعلمون أن أي نوبات تفتيش إضافية لن تحدث قبل الفجر. دخل الغرفة، وسرق من بين شفتيها، أول قُبلة له، ولها. ثم نصف ساعة من القُبلات. أو ليس تماماً، يمكن القول قُبلة، ثم تنظر إلى الباب، ثم قُبلة ثانية، ثم استراق السمع. -هل سمعت أي صوت؟ يبدو أنها قادمة! يذهب إلى الباب، يضع أذنه عليه، لا شيء، يعود، ويسرق بعض القُبلات الأخرى. هذا يكفي، لا داعي للمخاطرة وقت أطول علها تأتي بغتة! تَركها على السرير بقميصه المسلوب غدراً، نصف عارية. بالكاد دخل غرفته، ثم وابل من الرنين المتتالي، شلال منهمر من الرسائل. أنت، يا قذر، تباً لك، خدعتني، كيف سمحت لنفسي فعل هذا معك، تلاعبت بعقلي، جعلتني أفعل ما فعلته، لن أغفر لك، هل أخذت غايتك مني؟، لن أسامحك ما حييت، أكرهك، كيف تمكنت من خداعي، هذا آخر عهدي بك، لا أريد الحديث معك ولا النظر في وجهك بعد اليوم. قرأ الرسائل، ابتسم بثقة مفرطة، ودون أن يرد بحرف واحد، رمى الهاتف جانباً، وعاد إلى غرفتها. ثم ساعة كاملة، من القُبلات، واكتشاف الأجساد. يعرفها جيداً، لم يكن شلال الرسائل والشتائم هذه إلا دعوة إلى العودة، فهكذا النساء، خصوصاً سولماز. ورغم علمه طباعها، إلا أنها ما زالت قادرة على إثارة جنونه، وغيرته، متى أرادت، تعرفه جيداً كذلك، وتعرف كيف تتلاعب بأعصابه. يعيشون أجمل أيامهم، رغم وجود ألارا. تعلموا كيف يجعلون من وجودها مصدر فرح وسرور، عوضا عن النكد والعذاب. ضحكوا، لعبوا، كل ليلة، وهم يخدعونها، فما أن يدخل القط غرفته، حتى يخرج الفئران خلسة. في الخزانة، أسفل السرير، تحت الطاولة، لم يبق مكان في المنزل إلا وسرقوا القبلات فيه، وبالطبع، بعض الأمور الإضافية الأخرى. مثل هذه العلاقات، وهذا الحب، لا ينتهي أبداً، لا بد أن يستمر للأبد. ذات ليلة، تجلس في أحضانه، يضمها بذراعيه، يد فوق الأخرى، أبعد إحدى يديه، مدها خلف ظهره، ثم أعادها، رفعها أمام عينيها مباشرة. -حبيبتي، لن يفرق شيء بيننا، هل تقبلين الزواج مني؟ نظرت إلى الخاتم، ابتسمت، نظرت إليه: بالطبع أقبل. رابطة إضافية جمعت بينهما، لم تُحدث أي فارق ولا تأثير في علاقتهما، فما يجمع بينهما أقوى حتى من رابطة الزواج، وأي روابط أخرى، فما كانت الخطوبة؛ لتوثق العلاقة، وما كان غيابها ليضعفها. إلا أنه نوع من البروتوكولات، فقد بات في يد كل منهما خاتم يقول للعالم من حولهم، علاقتنا رسمية. الخواتم تحدثت بدلاً عنهم. أخبرت الجميع، إلا الأم، فما كانوا ليلبسوها في أثناء وجودها. لن يخبروها عن الأمر شيء، ستعلم حين ننهي دراستنا الجامعية، ويحين موعد الزواج. هذا إن عاشت إلى حينها! فقد مرضت ألارا فجأة. المرأة التي لا تتعب، لا تنكسر، لا تُقهر، لا تهدأ، لا تضعف، لا تلين. باتت طريحة الفراش، بين ليلة وضحاها. المرأة التي لا يهد جبروتها شيء على وجه الأرض! هدها المرض، فلم تكن إلهاً، ولم تقترب حتى. كما يبدو، فإن الموت يحب هذه العائلة! لا يعطيهم الكثير من الوقت في الحياة، ولا حتى فرصة كافية لوداع الأصحاب قبل مغادرتها. في نفس عمر أخيها فؤاد تقريباً، التاسعة والأربعون، لفظت ألارا أنفاسها الأخيرة، على إثر مرض عضال فتك بها فجأة، بلا سابق إنذار. على سرير الموت، اعترفت أخيراً، لشاب في العشرين من عمره، وشابة في الثامنة عشر. تبكي لأول مرة في حياتها، بدموع صدق، لا دموع التماسيح: سامحوني يا أبنائي، ظلمتكم، كنت قاسية عليكم، عذبتكم، آذيتكم كثيراً منذ طفولتكم. أخذت نفس موت ثم أضافت: إن كان يحق لي ترك وصية كما الأمهات، فوصيتي ألا تفترقوا عن بعضكم ما حييتم، لم يفرق بينكم شيء من قبل، ولن يحدث، كونوا يداً واحدة، وتذكروا ألارا الطيبة الحنونة فقط، انسوا واغفروا لي ما بدر مني. نفس موت، دموع تنهمر من عينيها، موجهة الكلام إلى نوبيا: إن كان لي طلب أخير في هذه الدنيا، فهو أن أرى ذلك الخاتم في يدك، ضعيه يا ابنتي، طالما علمت بشأنه، سأكون فخورة بكِ، لا داعي لإخفائه أكثر. أخرجت الخاتم من حقيبتها، وضعته في إصبعها، أمسكت يدها، ألارا تتحسس الخاتم، وكذلك فعل مروان، أخذ خاتمه من جيبه، ولبسه. نوبيا تبكي، فإن حضر الموت، طرد جميع ذكريات ومشاعر الغضب، فلا رهبة توازي رهبته. كلمات تريد بها لعمتها أن تفارق الدنيا مرتاحة البال. -لم تؤذينا يا عمتي، كنتِ حنونة طيبة معنا، ربيتنا حتى بتنا شبانا يافعين ناجحين، هذا بفضلك، شكراً لك، وإن كان قد بدر منكِ يوماً ما يسيء إلي، فإنني قد سامحتك عليه. مروان على الطرف الآخر من السرير، يمسك يدها بيد وبالثانية يتحسس وجهها. -لا أحد غاضب منكِ يا أمي، في الحقيقة، ما تظنين أنه كان قسوة علينا، فهذا هو الذي صقلنا، جعلنا ما نحن عليه، بتنا استثنائيون فوق المعتاد، أقوياء، وطالما أننا فخورون، سعيدون بواقعنا وحالنا، فهذا يعني أنكِ قد نجحتِ، جعلتي مني رجلاً ناضجاً لا تقهره الصعاب، وكم نحن فخورون بك. كانت طاغية، جبارة، ظالمة، إلا أن غيابها سيترك فراغاً لا محالة! كيف لنا أن نعيش بلا ألارا؟! سؤال حيرهم، هل يمكننا العيش بسلام الآن؟! بهذه البساطة! بلا تعقيدات، ولا عذاب، ولا إذلال! انتهى كل هذا مع موتها. ماتت ألارا، ولعل حتشبسوت ماتت معها كذلك!! انتهت لعنة زينب، للأبد، أو هكذا يتأمل الاثنان. نسي كل منهما، أن من شب على شيء، شاب عليه، ومن اعتاد الحياة وسط أعاصير الفوضى، التناقضات، والضغط العصبي، فإنه أبداً، لن يتقبل العيش بسلام، ثم الموت ببساطة، كأنه شيء لم يكن. Share this… Copy Facebook Messenger Twitter Pinterest Linkedin Whatsapp Telegram 1Artboard 1 copy 2 Snapchat Skype Print Zainab’s Curse - Arabic Online Post navigation Previous postNext post Related Posts الفصل الثالث والعشرون. التركماني النبيل April 26, 2023April 29, 2023 الموت، معضلة شائكة، لا نعلم متى يأتي وكيف، وفي بعض الأحيان لا نعلم لماذا، صدمة… Read More الفصل الخامس والثلاثون. سأحطم جمجمتها April 26, 2023April 29, 2023 -هذا آخر تنبيه لك، لم تعد طفلاً، انظر إلى نفسك، تبدو كالبغل، أنت في العاشرة… Read More الفصل الرابع والعشرون. المصائب لا تأتي فرادى April 26, 2023April 29, 2023 أفكار متقاربة، بين سردار والأب، فخطيب ابنته رجل شهم كذلك، من ضحايا العسكر، مثله تماماً،… Read More Leave a Reply Cancel replyYour email address will not be published. Required fields are marked *Comment * Name * Email * Website Save my name, email, and website in this browser for the next time I comment. Δ
الفصل الثالث والعشرون. التركماني النبيل April 26, 2023April 29, 2023 الموت، معضلة شائكة، لا نعلم متى يأتي وكيف، وفي بعض الأحيان لا نعلم لماذا، صدمة… Read More
الفصل الخامس والثلاثون. سأحطم جمجمتها April 26, 2023April 29, 2023 -هذا آخر تنبيه لك، لم تعد طفلاً، انظر إلى نفسك، تبدو كالبغل، أنت في العاشرة… Read More
الفصل الرابع والعشرون. المصائب لا تأتي فرادى April 26, 2023April 29, 2023 أفكار متقاربة، بين سردار والأب، فخطيب ابنته رجل شهم كذلك، من ضحايا العسكر، مثله تماماً،… Read More