الفصل العشرون. ذات الوجوه المتعددة

-هذا العالم لا يؤمن بالصدق يا عزيزتي، فالصادقون فيه مُعذبون، يعانون، مضطهدون، ستتعلمين سريعاً، أن القوة والكذب، وجهان لعملة واحدة، والناس لا يهابون إلا ساحة الأقوياء.

هذا أول درس تعلمته ألارا من حتشبسوت، فهذا العالم من حولنا منافق متلون، لا تثقي به، ففي اللحظة التي ستديرين له ظهرك، سيطعنك بلا رحمة.

إخوانك، زملاؤك في المدرسة، أصدقاؤك في الحي، كلهم كاذبون مخادعون متلونون، لا بد من حماية أنفسنا منهم، قاعدتنا الذهبية، فرّق تَسُد.

في الثامنة من عمرها، باتت نسخة كربونية مطورة عن زينب، حكت لها الأم كل ليلة عن الفراعنة، حضاراتهم، وبالطبع، عن حتشبسوت، قصتها الكاملة.

حفظت تاريخ اللعنة عن ظهر قلب، وحفظت تاريخ أمها معها، قصة فاطمة والعجوز والفرن.

-ستتمكين يوماً ما من رؤيتها يا ابنتي، كما أراها، وستحرص دوماً على أن تكوني بخير.

طفلة بخيال خصب، لا شيء يمنعها من أن تتجسد لها حتشبسوت واقع وحقيقة دامغة أمام عينيها، يوماً ما، فالمسألة مسألة وقت، لا أكثر.

تتعلم فنون الفتنة بين الناس، الاستحواذ والتملك بطرق ملتوية، وجهها البريء الجميل، سذاجتها، ليست أكثر من قناع تتستر خلفه، تعلمت كيف عليها أن تكون في صدارة المشاهد كلها، وواجهة الأحداث جميعها، السعي الحثيث لتكون المسيطرة الأعظم، ولفعل هذا لا بد من اتباع آليتين في وقت متزامن.

أولاً: زرع الفتنة والبغضاء بين الجميع، الكذب والتضليل سلاحها، وحسن النوايا والسذاجة خطوط دفاعها، تتستر خلفها إن ساءت الأحوال، ولم تمضِ حسب ما تريد.

ثانياً: التفرقة بين المتحابين، المتصالحين، تفكيك أي روابط تجمعهم، برابطة الطرف الثالث، زجت نفسها بين أي علاقتين؛ لتكون طرفاً وسيطاً بينهما، كالأخطبوط، تسيطر على الجميع.

فرضت نفسها أمراً واقعاً على الجميع، لا شيء يجبرهم على مسايرتها إلا كثرة إلحاحها، فالجلد على العقول، يفعل فينا أضعاف ما يفعله الجلد على الأجساد، ومع الوقت يرى الإنسان أنه مُجبرٌ بها، مُلتزمٌ معها، خائن ناكث إن فعل أمر دون إخبارها به.

بلا حياء ولا خجل، لا تتوانى عن عتاب فلان من الناس، لِمَ فعلتم هذا دون إخباري؟ لِمَ ذهبتم دون علمي؟!

ضحاياها أكثر الناس تهذيباً وأدباً، الذين يخجلون من الرد عليها بطريقة فظة! لا ترضى أخلاقهم الرد عليها بشيء يحرجها، مثلاً، وما علاقتك أنتِ؟ لمَ تزجين نفسك في شيء لا ناقة لكِ فيه ولا جمل؟، فهؤلاء سرعان ما يجدون أنفسهم باتوا بطريقة ما مُلتزمين معها؛ لتكون دوماً في واجهة الأحداث، لا تفعلوا هذا ما لم تخبروا ألارا به، استشيروها فيه أولاً.

فعندما يكتشف أحد أنها كائن طفيلي، ما إن تلتصق به، حتى يصبح التخلص منها شبه مستحيل! يكون الأوان قد فات، فقد باتت ترى حقوقها فيما ليس لها، وقد بات مجبراً بها، مُلتزماً معها، وإن عارضها أحد أو واجهها بالحقيقة، غضبت، تذللت، تمسكنت، ولعبت على وتر شهامته ومروءته، تلك التي تعيده إليها سريعاً، معتذراً.

في الحي، المدرسة، المنزل، طبقت نظريات حتشبسوت بحذافيرها، فهي تتعلم، فشلت في البداية، لم تتمكن من السيطرة إلا على بعض العلاقات المحيطة، إلا أنها بداية موفقة لطفلة في مقتبل العمر، فالأطفال يتعلمون سريعاً.

نجحت بداية في تقريب أخيها فؤاد ذي الثامنة عشر عاماً منها، أخته الصغرى المدللة، بات حاميها من غضب إخوانها الأكبر، حين ترد شكوى من أم أو معلمة، على إثر خطأ فعلته، لا يجب على طفلة في عمرها فعله، كأن تنقل كلام عن الجارة الفلانية للفلانية، أو تثير بخبث شيطاني الفتنة بين زملائها في المدرسة، وذريعتها التي تسترت خلفها دوماً، طفلة بريئة، لا تدرك ما تفعل، بينما الحقيقة، فهي تدرك تماماً، فما تفعله ليس إلا بأوامر حتشبسوت، تدريبات ميدانية مبكرة.

سريعاً احترفت القاعدة الذهبية ” فرّق تسد ” والفتنة من أهم أدواتها، عن طريق بث الأكاذيب، وزرع البغضاء في النفوس على النفوس.

شاهدت أمها تفعل، فقلدتها، لونت جلدها كالحرباء، تحلت بالفجور، نكارة للجميل، لا تعدم الحيل لتنال مرادها، ووصول غايتها، التي لن تكون أكثر من غاية لئيمة خبيثة فيها مصلحة لحظية لها مقابل إلحاق ضرر بالغ في الآخرين، فمصلحتها مقدمة على كل شيء، مزاجها الخاص هو محور الكون، ولا بد أن يدور العالم كله حوله، وكأنها إله من الأزمان الغابرة، أو زعيم عربي من حقبة ما بعد الانقلابات العسكرية، لا مبالية، إن تعلق الأمر بغاية سخيفة لها، أو شهوة آنية، إذاً ليحترق الجميع في سبيل بلوغها.

وسائلها، ذات الوسائل التي استخدمتها زينب، مسكينة بريئة حين يستعدي الأمر، ثم ما أن تتمكن حتى تنقلب إلى طاغية جبارة لا رحمة في قلبها ولا شفقة، صَدقت وجود حتشبسوت، واستمعت لنصحها، تعلمت على يدها، باتت نسخة كربونية عنها وعن أمها، بكل تصرفاتها، أفكارها، تفاصيلها.

وكما أن زينب لم تُظهر وجهها الآخر إلا حينما تمكنت من القصر وحسن، فإن ألارا فهمت هذا جيداً، فليس كل ما نعلمك إياه، يمكنك استخدامه اليوم، تمسكني حتى تتمكني، وإن تمكنتِ، فلا ترحمي، فهذا العالم لا يستحق الرحمة.

أخطر ما تعلمه ألارا خلال سنوات طفولتها وشبابها، لم يكن على يد حتشبسوت، بل على يد القدر ربما، سطوة الخيال، باتت ذات خيال خصب على غير المألوف، يمكنها تأليف أكذوبة لا وجود لها، في لحظة واحدة، أكذوبة مُقنعة بكل جوانبها، وكأن الكذبة ما هي إلا حقيقة مُقنعة، إن حَبكتها بكل تفاصيلها، صَمدت في وجه أعتى الحقائق، تنظمها كأنها تشرب كأس من الماء، وكأن الكاذبين لهم وحي كوحي الشعراء، ما أن يتنزل، حتى ينطلق لسانهم بنظم أعظمها، مُحكمة، مترابطة، ليس من السهل نقدها، ولا فضحها.

إلا أن أمراً يقلق حتشبسوت، فإن ألارا مندفعة، هوجاء، تجتهد في كثير من الأحيان، فتصب النار على الزيت أكثر مما يتوجب، لا تستمع للنصح، عنيدة، لا تفكر مرتين.

وكأن شيئاً في داخلها يفعل الشر لأجل الشر، لا للسيطرة! وهذا قد ينقلب ضدها يوماً ما، فمن يفعل الشر لهدف يعلمه، وغاية يريد نيلها، سيبقى متحكماً به، يستخدمه بدرجة كافية فقط، أما الشر لأجل الشر، فهذا ما لا يمكن لبشر السيطرة عليه.

وفي حين أن حتشبسوت لديها أهداف وغايات واضحة، تستخدم الشر في سبيل الحصول عليها، إلا أن ألارا تمتلك بذرة الشر داخلها، تفعله في بعض الأحيان بلا هدف، ولا غاية، شر خالص نقي من أي شوائب.

فعلى خلاف زينب، قد أصبحت ألارا ذات شخصية مستقلة عن حتشبسوت نفسها.

رعناء، هوجاء، غبية، مجنونة…

ليس من السهل السيطرة عليها، والتحكم بها.