April 29, 2023April 29, 2023 من رواية اللحظة بيبرس. المقر ألفا أقلعت الطّائرة من دبي إلى وسط البحر الأبيض المتوسّط، حيث مدينة “فاليتا”، عاصمة دولة مالطا. اعتاد في كل سفريّاته السّابقة، على طقوس خاصّة، يستغل قربه من السّماء، يهيم بروحه عالياً؛ مناجياً الله، متوسّلاً له أن يحميه، ينجيه، يجعل له القوّة والسّلطة والبرهان على أعدائه وخصومه، أن يجعل بأبصارهم غشاوة عنه، ولا يكتشفوا حقيقته، ونواياه. إلا أن هذه المرة، كثير من الطقوس تبدلت، كاترينا بصحبته، شربا كأساً من النّبيذ، ضحكا، نامت على صدره بعض الوقت، تحدّثا عن مالطا، هذه الجزيرة الرائعة؛ التي هما بلهفة لرؤيتها، فرحتهما برحلة غاية في الرّوعة تنتظرهم. استغلّت كاترينا وقت الرحلة، حدّثته بشغف عن مالطا التي يزورها أول مرة، فقد زارتها هي من قبل، معلوماتها مكرّرة بالنسبة له، فهو يعرف الكثير عن هذه الجزيرة سلفاً، منها أن الأرقام وبعض الأفعال اللغوية باللغة العربيّة، ولا يعرف أفضل الأماكن السياحيّة بها فقط، بل تاريخها، وذلك الشيء الذي سمع به مؤخراً، تنظيم فرسان مالطا! في مالطا مجموعة تسمى تنظيم “فرسان مالطا” يُقال إنهم ورثة فرسان المعبد، فبعد الحروب الصليبية على العالم الإسلامي وبيت المقدس تشكّل في القدس تنظيم “فرسان المعبد” و”فرسان الهوسبتاليّة”، ارتكبوا أبشع المجازر في حقّ المسلمين، كانوا مجرمين وجزارين، حتى طردهم “صلاح الدّين الأيوبيّ، فهرب فرسان الهوسبتالية” إلى جزيرة قبرص، بينما فر “فرسان المعبد” إلى جزيرة مالطا.” ورغم أن دولة مالطا الحاليّة لا علاقة لها بفرسان مالطا، الذي أنهى وجودهم بها “نابليون بونابارت” في حروبه على أوروبا، بينما كان “فرسان الهوسبتالية” قد انتهوا على يدّ الدّولة العثمانية، إلّا أن دولتهم مازالت قائمة بالفعل ومعترف بها في الأمم المتّحدة، ومقرّهم في “روما”. بل إن لهم سفارات باسم دولة “فرسان مالطا العسكريّة” في بعض البلدان، أحدها في القاهرة عاصمة مصر، ليس بعيداً حيث كان ذلك المنزل الذي شهد أول قُبلة له، سرقها يومها من بين شفتي سولماز. لديهم علاقات مع أكثر من مائة دولة حول العالم، منها أكثر من ست عشرة دولة عربيّة وإسلاميّة. دولة لغز، بلا أرض ولا شعب، اسمها دولة “فرسان مالطا”، تأسّست في مالطا، ولا يعرف من أين تدار الآن، يقال إنها طفلة بريطانيا المدلّلة، دولة استراتيجيّة الموقع، حيث شمالها جزيرة صقلية الإيطاليّة، جنوبها ليبيا وتونس. فرسان مالطا، هم الورثة الشرعيون لفرسان المعبد. “فرسان المعبد”؟! طالما ربط بيبرس اسمهم باسم “خلية المعبد” و”المقر ألفا”، ولكن فرسان مالطا، والآن السّفر إلى مالطا، بصحبة كاترينا التي أرسلتها “خليّة المعبد”؛ للتقرّب منه، يبدو أن فصلاً مثيراً جداً بانتظاره. كانت أخبارهم مختفية تماماً عن العالم حتى عام ألف وتسعمائة وتسعين، عندما اجتمع أكثر من خمسمائة عضو من منظمة فرسان مالطا، في الجزيرة، اجتماعهم الأول منذ أن أخرجهم نابليون منها، اتفقوا على إيجاد نفوذ قوي لهم في العالم الإسلامي، مبشرين بأن الصّدام مع العالم الإسلامي قادم لا محالة. يقومون بتجنيد المرتزقة، ضبّاط، تجّار، رجال مخابرات، حتى زعماء الدّول، يصبحون أعضاء لديهم، قوانينهم سريّة، إنهم أشبه بالماسونية، إن لم يكونوا أخطر منها. في العراق وُجدوا على شكل شركات الحماية الخاصّة على غرار شركة “بلاك ووتر”، في جنوب السّودان وُجدوا على صورة منظمات إغاثية، في مصر اتهموا بأنهم ارتكبوا مجازر بحق المتظاهرين في “ثورة يناير”، ويشاع أن هذه المنظمة والدّولة الوهميّة ما هي إلا غطاء، غطاء قذر لأجهزة مخابرات دوليّة تستخدمها لصالحها. هل فرسان مالطا هم حقاً ورثة فرسان المعبد؟ أم مجرد طائفة وظيفيّة، كما حال باقي الطوائف الوظيفية؟ أم أنّها جماعة جعلت من أجهزة الدّول وزعمائها مجرّد حجارة في رقعة شطرنج دولية؟ هل هي مرتبطة بذلك العقل الذي أحسّ به دوماً؟ من هم ضبّاط “خلية المعبد” الذين قابلهم؟ هل “خليّة المعبد” هي نفسها فرسان مالطا؟ هل ما زال يمضي على خطى دراويش يلدز! أم أنه ابتعد عن مسار القضية؟! أسئلة كثيرة عصفت بمخيّلة “بيبرس”، شجّعته على ضرورة السّفر، لا بدّ من معرفة الأجوبة. رغم خوفه الذي حاول إخفاءه عن كاترينا، إلّا أنه كان يعلم أن هذه الطائرة، التي تحلّق به بعيداً، هي طائرة الخلاص، فالخلاص هو أن يجد الأجوبة للعديد من الألغاز التي عصفت به طوال حياته، الخلاص هو أن يجد الجواب حول ذلك العقل الذي أحس به دوماً، ومواصلة قضية بدأها رجال شجعان، قدموا حياتهم في سبيلها، قبل أكثر من مائة عام. في وقت متأخر، وصلت الطائرة، دخل مالطا بدون أي مشاكل، بلا تأخير في إجراءات الدخول، توجّها إلى أحّد الفنادق الراقية في العاصمة، عشيقين محبين، استقبلوهم بالترحاب، جهّزوا لهم أفضل الأجنحة، جناح تليق بعاشقين جاؤوا برحلة سياحيّة. ناما ليلتهما، في الصّباح تناولا إفطارهم، وانطلقا، ثلاثة أيّام قضوها يتنقلان بين الشواطئ، الحدائق، الآثار القديمة والمتاحف، بالفعل جزيرة في غاية الجمال، والرّوعة. لم يحاول بيبرس أبداً أن يضبط أي مراقبة متوقعة، لم يثر الشكوك، ولم يشُكّ في شيء، فلا حاجة لهذا الاستعراض الآن، فهم لا محالة يراقبونهم، ولا داعي لجعلهم يشعرون أنه مُرتاب من أمر ما، عاش الحالة تماماً، عاشقاً، في رحلة سياحيّة مع محبوبته. في ليلتهما الرابعة، سهرا في أحّد المقاهي على شاطئ البحر، جلسا على طاولة فوق المياه، يتوجب المسير لها على جسر خشبيّ، حولهم الشموع، في كل مكان، وبعد أن ارتشفت من كأس النبيذ رشفة، نظرت إليه. كاترينا: مروان، هل تعلم ما الذي أتمناه من هذه الدنيا؟ -ماذا؟ -كل ما أريده أن أبقى معك طوال العمر، لا أريد لأي شيء أن يفرقنا. -بالتأكيد حبيبتي، لن يفرقنا شيء، أبداً. كاترينا بنظرة مشكّكة: هل أنت واثق؟ مروان: لمَ تقولي هذا؟ ما بك؟ أخذت نفساً من لفافة تبغها، نظرت إليه نظرة يعرفها بيبرس جيّداً، ليس نظرة عاشقة، بل نظرة رجل مخابرات محترف، على وشك كشف أوراقه، خفق قلبه، ها قد أتت اللحظة، إنها لحظة الحقيقة، الآن ستتكلم، ودّ لو أنّ الزّمان يتوقف هنا، لو أن حياته كلّها كانت ضرباً من الوهم والخيال، أو لو أنّ صاحب ذلك الصّوت لم يكن “المطرقة”، ربّما كان صوت يشبه صوته. قاطعت أمانيه قائلة: حسناً يا بيبرس دعنا نتحدث بصراحة قليلاً. جحظت عيناه بذهول مصطنع، تصبب وجهه تعرّقاً، لقد نادته بيبرس، تَعرف هويته السرية، رد فعل مدروس، لا بد منه. رغم علمه بمعرفتها، إلا أنه عاش الحالة، حتى بات وكأنه بالفعل يجهل أنها تجهل حقيقته. مروان منفعلاً، بغضب العاشق: بماذا ناديتني؟ بيبرس؟ من بيبرس هذا؟ تخطئين باسمي أمامي، وتناديني باسم شخص غيري؟ فإن كان من شخص آخر في حياتك لما لم تقولي هذا منذ البداية؟! كاترينا ساخرة: بيبرس، لا يهمّ، مروان أو بيبرس، المهمّ أنني أحبّك، عليك أن تتأكد من هذا. بتصنع واضح: كاترينا ما بك؟ كاترينا: بيبرس، أنا أعلم كلّ شيء عنّك، اهدأ عليك الآن أن تكون هادئاً؛ لأن ما سيحدث الليلة، سيقرّر إن كنّا سنمضي سويّاً أو لا. ساد الصّمت، لحظة ذهول طويلة مصطنعة، ارتشفت هي نبيذها، أشعل هو لفافة تبغ كوبيّة، سمع وقْع أقدام قادمة على الجسر الخشبيّ، لم يلتفت لينظر من هو القادم، أدرك فوراً، فلم تكن وقع أقدام النّادل، بل خطوات شخص واثق من نفسه، يمشي ببطيء، بكبرياء، لا محالة أنه “إدوارد”، ورغم هذا تعمّد ألا ينظر له أبداً. توقف صوت الخطوات جوار الطاولة، بيبرس ما زال ينظر إلى كاترينا. نظرت هي للرجل، بوقار قالت: أهلا سيّدي تفضل اجلس. ثم نظرت إلى بيبرس، لم يشح بنظره عنها بعد، لم يلتفت حتى، في حين صوت المقعد يُسحب، جلس الرجل معهم. أخذت نفس من لفافة تبغها النحيل الرقيق، ورشفة من كأس النبيذ: ما بك يا بيبرس؟ ألا تريد أن تعرف من الذي أتى؟ مروان: قلت لك لا أعرف عما تتحدثين؟ لستُ مهتماً، الذي يهمني هو أنتِ، ما الذي يحدث لكِ؟ كاترينا: أنت تعرفه عليك النظر لوجهه فقط! نظرة خاطفة إلى البحر باتجاه الميناء بعيداً، حيث تهيم الأشباح بين أضواء السفن. هناك بين الأضواء، ضوء واحد يعلم بوجوده لا محالة، حيث يقف الدراويش شامخين في خضم الفوضى، لا بد أنهم هناك، هكذا كان العهد والوعد، لن نتخلى عنك، لن نتركك وحيداً، سننتصر سوياً، أو نموت على قلب رجل واحد، كما مات أسلافنا. استجمع قواه، ثم نظر باتجاه الرجل، هو بالفعل، السّيد “إدوارد” ضابط “خلية المعبد”. تصنّع الذّهول، الحيرة، الارتباك. ثم ضحك بصوت مرتفع: آه، الآن فهمت، هذا أنت؟ نظر إلى كاترينا: وأنتِ هل تعملين معهم؟ ما الذي يجري؟ ولماذا أنتم بحاجة لكل هذه التمثيليّات لرؤيتي؟ اقترب منه، همس بصوت خافت: يا رجل كان يكفي أن تتصل مع “يامن”؛ كي نلتقي متى أردت، لكن شكراً لكم على كل حال، على الأقل جعلتموني أزور مالطا. إنها جميلة، تراثيّة، عريقة. ما لبث أن نظر إلى كاترينا بازدراء واستحقار: وأنتِ هل انتهت مهمّتك الآن؟ أظن أن عليكِ أن تنصرفي، لا داعي لوجودك إذاً. إدوارد صامتاً تماماً، لم يرد بحرف واحد. بكامل هدوئه ورتابته، لم يتفوّه بكلمة واحدة. لوح بيده نحو النادل، تقدم منه مسرعاً، طلب كأساً من النّبيذ. موجهاً كلامه لبيبرس: سوف تفهم كلّ شيء، لا تنفعل، كن هادئاً أضاف: يا صديقي لقد مضى وقت طويل لم نلتق، من الجيّد أن تذكرتني! بيبرس: نعم أنت رجل من المستحيل نسيانك، من فضلك وضّح لي، ما الذي يجري؟! إدوارد: بخصوص كاترينا فهي ستوضّح ما يتعلّق بها لاحقاً، حالياً أردتك أن تعلم أنها تعمل معنا، وأنّنا مهتمون بك جدّاً، طالما كنّا مهتمين بك، وأردناك هنا؛ لأننا بالضبط نريدك وحدك، ليس بصحبة يامن، بعيداً عن أي أجهزة دولية أخرى. اقترب منه أكثر، همس بصوت منخفض: أنت الآن على ملعبنا، ستفهم كلّ شيء، في الوقت الملائم. أضاف: لكنّي الآن أودّ أن أعرف منك شيئاً واحداً، هل تمانع العمل معنا بعيداً عن يامن والجهة التي يعمل لصالحها؟ نحن وأنت مباشرة بدون وسطاء؟ بيبرس بتردّد: لا أعرف، لا يمكنني إجابتك، لا بد من معرفة المزيد أولاً. إدوارد: لا أريد جواباً بالموافقة الآن، ولكن بصورة أولية، إن عرفت المزيد، وكان كل شيء مناسب لك، وعلى ما يرام، هل لديك مانع؟ -لا، من ناحية المبدأ فلا مانع عندي. إدوارد: هذا كل ما أريده منك حالياً. ارتشف من كأس النبيذ ثم قال: من الأفضل ألا أطيل البقاء معكم، فلا أودّ أن أفسد عليكم خصوصيّتكم. ضحك بسخرية: يا رجل، هل تستهزئ بي؟ لقد تبين أن كاترينا تعمل معكم من الأساس، فعن أيّ خصوصيّة تتحدث! اقترب منه، ألصق فمه بأذنه، قال: بغضّ النظر يا صديقي، كاترينا امرأة، وأنت تعلم جيّداً أنّ ما قلته الآن ليس جيّدا بحق امرأة يا صديقي! ابتسم بيبرس، فإن إدوارد محق تماماً، فالمرأة تبقى امرأة. شرب ما تبقى من كأس النبيذ، وهمّ بالمغادرة حين تذكّر أمراً عليه قوله، نظر إلى بيبرس: يا صديقي، لا تحاول السفر من مالطا أبداً إلا بالتنسيق معنا. هز رأسه بالموافقة، فهم فورا أنه بالفعل على ملعبهم، عليه أن يتّبع قوانينهم، وشروطهم. بعد أن تركهم، نظر بيبرس إلى كاترينا، وقحة تماماً، لم يهتزّ لها شعرة، لم تشعر بتأنيب الضّمير، لم ترتبك، كالتي اعتادت هذا الموقف من قبل، لم يتفوّه بحرف واحد، جلسوا لعشر دقائق صامتين تماماً، ثم وقف وهمّ بالمغادرة، دون قول أي كلمة. تركها جالسة مكانها، مشى على الشاطئ، الكثير من الأحاسيس، إثارة، فضول، شوق، رهبة، خوف، المشاعر جميعها ثارت في داخله، تنهّد تنهيدة عميقة، أغمض عينيه محدّثاً نفسه، لقد اقتربت، كنت أعلم أنني سوف أصل إلى ها هنا يوماً ما. حدث نفسه: الليلة هناك دور عليّ أنّ ألعبه، دور العاشق الذي خذلته معشوقته، كيف يتصرّف الناس في مثل هذه الحالات؟ ارتجل، توجّه إلى أحد الملاهي الليليّة، شرب الخمر بصحبة إحدى العاهرات، في وقت متأخر عاد بها للفندق، فلا بد من إفراغ غضبه في شيء، وفي حالته هذه، فإن أكثر أمر مناسب هو الخمر والجنس، هكذا يفعل الكثير من العاشقين عندما يخذلهم الطرف الآخر. دخلا من بوابة الفندق ثملين تماماً، تفاجأ من رآه من عاملي الاستقبال، يعلمون أنه نزيل برفقة محبوبته، ما الذي يفعله هذا السّكير المجنون مع هذه العاهرة؟ صعدا إلى الغرفة، فتح الباب ودخلا، جالسة بكبرياء، بكامل هيبتها وجبروتها، تضع قدماً على قدم، تدخّن لفافة تبغها بشغف، نظرت له ولم تهتزّ، متماسكة تماماً. نهضت عن الأريكة ببطيء قاتل، كأن شيئاً لم تره، توجّهت نحو حقيبتها، أخرجت حفنة من المال، ثم إلى بائعة الهوى، وضعت المال في يدها وصرفتها. تركت بائعة الهوى المذهولة يدها من يده ببطيء تنظر لا تصدق ما تراه، من هذه؟ هل أنت مرتبط؟ تأتي بي حيث فتاتك! تبّاً لك؟ غبيّ؟ أحمق؟ ما قصّتك؟ أخذت المال وغادرت. كاترينا: هل هذا هو أسلوبك في التنفيس عن غضبك؟ بيبرس بلسان ثقيل أعياه الخمر: لا شأن لك بهذا، كانت كلّها لعبة، وأنا حرّ أفعل ما أريده. كاترينا باستحقار: أنت تافه فعلاً، لا أعلم لما هم مهتمون بك؟! بيبرس: وأنتِ ماذا؟ أخبريني، ما هو الفرق بينك وبين تلك العاهرة؟ لحظة صمت وذهول، فتحت عينيها، اغرورقت مقلها بعبرة ألم، كادت تذرف سيلاً من الدموع، صدمها بقوله، لم تتوقعه في أسوأ الأحوال حتى. أضاف قائلاً: نعم ما هو الفرق؟ العاهرة هي التي تبيع جسدها من أجل المال، وأنتِ لعبتي هذه اللعبة معي من أجل ماذا؟ مهما كان السّبب، في نهاية الأمر سيكون أمراً يتعلّق بالمال. بلا تردّد، بلا تفكير، بلحظة واحدة، صفعة مدوّية على وجهه، أهان كبريائها. رفع وجهه نحوها، صفعة ثانية دوت، رفع وجهه من جديد، الدموع تنهمر من عينيه، بكى بحرقة، هو نفسه لم يصدّق ما يجري له، يعلم أنه كاذب، وأنه يلعب، ويتصنّع كل ما يجري، لكنّه بكى بحرقة حتى كاد يصدق نفسه، تنهّد تنهيدة عميقة، تحدّث بلسان ثقيل وأحرف مقطّعة. -لقد خدعتني، أحببتك يا كاترينا، أحببتك بصدق، تفاخرت بك أمام الجميع، فعلت لك كل ما تريدينه، من أجلك فعلت أشياء لم أفعلها من قبل، وأنتِ؟ ماذا؟ خدعتني، كذبتي علي. أمسكته من يديه، أجلسته على الأريكة، جلست جواره، اهدأ يا مروان، ألم يقل لك إدوارد إني سأوضّح الجزء الذي يتعلق بي؟ دعني أوضح ولا تتعجّل في استنتاج ما تريده. -هيّا وضحي؛ لنرى ما لديكِ؟ -وأنت بهذه الحالة؟ عليك النوم الآن، وفي الصباح نتحدث، أعدك أن أقول ما في قلبي تجاهك. -بل الآن، ستتحدثين بكل شيء الآن. كاترينا: على الأقل استحم، سأطلب القهوة؛ لتصحو من حالتك هذه قليلاً. بعد أن استحم، بعض التقيؤ، أكثر من الخمر في ذلك الملهى. شرب قهوته، صحي قليلاً من سكرته. بدأت كاترينا الحديث. -في البداية كانت مهمّتي أن أتقرّب منك، وأتعرّف عليك وعلى شخصيّتك من الدّاخل، ولكن عليك أن تصدّقني عندما أقول لك: إنني الآن أحبك، أحبّك فعلاً، أقسم لك بهذا، وإنني خائفة من فقدانك. صامت يكتفي بالنظر لها، علمت أنّ عليها أن تستمرّ بالحديث، عليها توضيح كلّ شيء دفعة واحدة. أضافت: أنا عضو في “خليّة المعبد”، مثل “إدوارد” وكل ضابط آخر قابلته، من عاداتنا أننا قبل أن نعرض على أحدهم التعاون معنا بطريقة مباشرة، فإنّنا يجب أن نتعرّف عليه، ليس فقط من تقارير ورقيّة أو مراقبة جسديّة وحسيّة، بل الدخول لحياته الشخصيّة، لأدقّ تفاصيلها، أفكاره، معتقداته، مبادئه، ما هو مستعدّ على فعله، وما هو غير مستعد لفعله، مهمتي كانت أن اكتشف كل هذا عنك، وأرفع تقارير إن كنت مؤهلاً؛ لتكون عضواً معنا أم لا، وقد كانت تقاريري كلّها تصبّ في صالحك، رغم أنني أحياناً كنت متردّدة في أهليّتك، إلا أنني أحببتك، وعلمت أن الطريقة الوحيدة التي سوف تستمر بها علاقتنا هي أن تنتسب إلى خلية المعبد، وهذا لا يعني أنك غير مؤهل، أنت مؤهّل فعلاً، وحبّي لك ساعدك. نظر لها: والآن كاترينا؟ ماذا سيحدث؟ -لا تقلق، لن أتركك، لقد انتهى الصّعب وما بقي سهلاً. -وما الذي تبقى؟ -ستعلم غداً لا تتعجل. بيبرس بابتسامة ساخرة: أظن أنّ عليّ النوم على الأريكة الليلة! كاترينا: كما تشاء، إن أردت أخرج أنا وأحجز غرفة ثانية. -كلا، لا حاجة لهذه البلبلة، يكفي عمّال الفندق الذين شاهدوا تلك الفتاة معي! كاترينا، بنبرة عاشقة تتألم: هل كنت تنوي فعلها؟ ممارسة الجنس معها؟ هنا على سريرنا هذا؟ -لا أعلم، كلّ ما أردته هو التنفيس عن غضبي. بعتاب أنثوي رقيق: لن أغفر لك هذا أبدا، لكن الآن، علينا أن ننام، ينتظرنا يوماً حافل. في الصباح، الكثير من التقيؤ كالعادة بعد شرب الكثير من الخمر في الليلة السابقة، ثم الاستحمام، لبس ثيابه في حين ما زالت هي نائمة، توجه إلى صالة الإفطار. بعد نصف ساعة لحقت به، تناولت إفطارها، ثم القهوة والتدخين، في الشرفة. كاترينا: علينا أن نكون طبيعيين، يكفي ما فعلته بالأمس، لا تجعل عمّال الفندق يلاحظون خلافاتنا. بيبرس: أنا طبيعيّ بالفعل، ما تطلبين هو غير الطبيعي، بالأمس أتيت مخموراً بصحبة عاهرة، ثم غادرت العاهرة فوراً، في حين كنتِ أنتِ بالغرفة، بالتأكيد تشاجرنا، وبالتأكيد نحن الآن متشاجران، ومن الطبيعي أن أتى للإفطار وحدي بدونك. ابتسمت، هو على صواب، نعم هذا “بيبرس”، في أصعب المواقف وأكثرها تعقيداً، لا ينسى المبادئ الأساسيّة للعمل الاستخباراتي. تناولا إفطارهما، عادا لغرفتهم ولبسا ثيابهما. ماذا الآن؟ أين سنذهب؟ قال بيبرس! كاترينا: إلى “المعبد”. -تقصدين “الكاتدرائية الأثرية”؟ لقد ذهبنا لها من قبل، ثم لا مزاج لي بالذّهاب في جولات سياحية. كاترينا: لا، بل إلى المعبد، إلى “خلية المعبد” نظرت له بحماسة، قالت: المقر ألفا يا مروان. ارتعدت فرائصه، كاد قلبه يقع بين قدميه. إنها اللحظة التي انتظرها سنوات طويلة، لحظة جني الثمار ربّما، لحظة حصد سنابل القمح وعصر الزيتون. مشيا خلال حدائق “باراكا” الشّهيرة، لم تكن المرة الأولى التي يزورها، نزلا إلى تلك الغرف المشيّدة تحت الأرض، حيث مقر قيادة الحرب، من هنا كانت تدار معارك الحرب العالميّة الثانيّة، غرف على عمق خمسين متراً تحت سطح البحر، ترتبط ببعضها عن طريق أنفاق وسراديب تمّ تشييدها أسفل الحديقة. دخلا أحد الممرّات، أحاطت بهم الأضواء الخافتة، وكاميرات المراقبة، ثم في ممرّ آخر، لوحة في بدايته مكتوب عليها “ممنوع الدخول”، بلا مبالاة بالمنع، ساروا قرابة العشرين متراً عبر السرداب، ثم انعطفا في ممرّ نحو اليسار، في منتصفه تقريباً، جلس رجل على كرسيّ، أمامه مكتب صغير، يقرأ صحيفة، يبدو كالحارس، رآها وسمح لهما بالمرور، نزلا درجات للأسفل. بعد لحظات من المشي عبر الأزقة في السراديب السرية، توقفا أمام بوابة حديدة سوداء، مُزينة بنقوش صليبية، طُلي الجدار حولها باللون الأحمر الفاتح، كُشف ستره وظهر لون الحجر الأصلي في مناطقَ عشوائيةٍ منه حيث تفتت عنها الطلاء، لوحةٌ فنية بتوقيع الفوضى، النظام الأعظم. طرقت ثلاث مرات، فتح أحدهم نافذة صغيرة منه، هز لها رأسه، أغلق النافذة، ثم دوي جلجلة وسط سكون السرداب، أقفال حديدة تُفتح. خلف الباب، قاعة أشبه بصالة الانتظار، في إحدى زواياها باب آخر، كراسي فخمة مزخرفة، من الطراز الأوروبي القديم، أضواء خافتة، لم يوجَد بها أحد، دخلا إليها، جلسا على المقاعد. حاول أن يكون جزءاً من المكان، كسر جليد رهبته، طار بروحه في الفضاء، النجوم والكواكب، السّدم والنجوم تولد داخلها، هدأ قليلاً، تمالك أنفاسه، لم يتفوّه بحرف، ولم تتفوّه كاترينا كذلك. ربع ساعة كاملة وهما على هذا الحال، بدأ يتأقلم مع المكان، يستعيد ذاته. نظر لها، قال بروح فكاهة: على الأقل فنجان قهوة، أريد التدخين. ابتسمت: التدخين غير مسموح هنا، انتظر حتى ندخل. -إلى أين؟ كاترينا بنظرة واثقة: لا تتعجّل، المهم عليك أن تكون على طبيعتك، لا تحاول تصنع شيئاً، لا تحاول التذاكِ، كن أنت ذاتك وفقط! بيبرس: أنا دوماً على طبيعتي. أغمض عينيه، تذكر ذلك الصوت، بنبرة واثق بالنصر أو الموت شامخاً شموخ مآذن إسطنبول العتيقة، حيث مقر سري آخر، في حي أوسكودار. الصوت: لا تقلق يا أوزجان، تَشجع يا أخي، وتذكر دائماً، فكلما نظرت إلى السفن في الميناء، أبحث بينها، سترانا نقف هناك على إحداها، لن نتركك وحيداً، فهذا الذي طلبناه وسعينا له، ستذهب حيث ذهبوا، لكنك لن تنتهي كما كانت نهايتهم. ضباط يلدز المقتولين غدراً، تهيم أرواحهم عبر هذه الأزقة والسراديب حولهم. تنهد، شرد بفكره بعيداً جدّاً، حيث النجوم والكواكب ذاتها، ربما جهنّم هنالك كذلك، تستعر شوقاً له. حدث نفسه: أنا حطب جهنم لا محالة فما من عقاب يناسب ما أنا مُقبل على فعله، إلا الجحيم. Share this… Copy Facebook Messenger Twitter Pinterest Linkedin Whatsapp Telegram 1Artboard 1 copy 2 Snapchat Skype Print Zainab’s Curse - Arabic Online Post navigation Previous postNext post Related Posts الفصل الخامس عشر. قمر ذات الدماء العثمانية April 26, 2023April 29, 2023 -تشبه جدتها كريمة! هذا ما كان ينقصني! قلت لكِ يا زينب الوقت غير مناسب للإنجاب،… Read More الفصل العشرون. ذات الوجوه المتعددة April 26, 2023April 29, 2023 -هذا العالم لا يؤمن بالصدق يا عزيزتي، فالصادقون فيه مُعذبون، يعانون، مضطهدون، ستتعلمين سريعاً، أن… Read More الفصل الثامن والثلاثون. الجواسيس الكبار April 26, 2023April 29, 2023 العام 2008 ميلادياً، الموقع مطار صبيحة الدولي، مدينة إسطنبول، فتاة في السادسة والعشرين من عمرها،… Read More Leave a Reply Cancel replyYour email address will not be published. Required fields are marked *Comment * Name * Email * Website Save my name, email, and website in this browser for the next time I comment. Δ
الفصل الخامس عشر. قمر ذات الدماء العثمانية April 26, 2023April 29, 2023 -تشبه جدتها كريمة! هذا ما كان ينقصني! قلت لكِ يا زينب الوقت غير مناسب للإنجاب،… Read More
الفصل العشرون. ذات الوجوه المتعددة April 26, 2023April 29, 2023 -هذا العالم لا يؤمن بالصدق يا عزيزتي، فالصادقون فيه مُعذبون، يعانون، مضطهدون، ستتعلمين سريعاً، أن… Read More
الفصل الثامن والثلاثون. الجواسيس الكبار April 26, 2023April 29, 2023 العام 2008 ميلادياً، الموقع مطار صبيحة الدولي، مدينة إسطنبول، فتاة في السادسة والعشرين من عمرها،… Read More