April 24, 2025May 12, 2025 لم نكن ضائعين أبداً – الفصل الأول: صيف في محطة رمسيس لم نكن ضائعين.لكن الطريق لم يكن واضحاً أيضاً.أحياناً لا تبدأ الرحلة حين تنطلق، بل حين تفقد الاتجاه.وقد لا يكون الضياع علامة على الفشل، بل دعوة خفية لإعادة التفكير.وفي صيف عام 1988، بدأ كل شيء بجملة واحدة من أبي. قرر والدي فجأة أنه يريد أن يصبح مستكشفاً. نعم، والدي… الرجل الذي كان ينشغل بالتفكير في أكثر الأوقات غرابة، حتى أن أمي كانت تطلب مني أن أقف على باب المنزل لألوّح له عندما تقترب سيارته، كي لا يُخطئ فيُدخلها إلى موقف بيت الجيران.ورغم ذلك، كانت السيارة أحياناً تتابع سيرها حتى نهاية الشارع، ثم تعود أدراجها وكأنها تذكّرت فجأة عنوانها الصحيح. الرجل الذي اعتاد أن يستعين بنا لتحديد موقع مفاتيحه، أو ليسأل، وقد بدا عليه الارتباك:“هل اليمين بعد الإشارة… أم اليسار عند البقالة؟” لم أكن أعلم ما كان يدور في عقله آنذاك.كيف لإنسان أن يكون حاضراً تماماً في حوارٍ ما، ثم تراه فجأة يغيب، ينسحب ذهنه إلى عالم آخر، يسمعك… لكنه لا يسمعك.ومع مرور الوقت، بتُّ أميّز بسهولة بين أبي حين يتحدث وهو يعي تماماً ما يقول، وبين أبي حين يتحدث وعقله مشغول بشيء آخر تماماً.والأغرب أن كلماته، في الحالتين، كانت دوماً تبدو منطقية، مقنعة، رصينة. هذا الرجل المنكّب على التفكير، والذي لا تُخوله مهاراته الميدانية حتى أن يستكشف البضائع على رف البقالة، استيقظ ذات صباح، وبعد أن شرب قهوته وأخذ رشفة طويلة من صمته، قال بنبرة تجمع بين الجدّ وحماسٍ مسرحي لا يخلو من المبالغة، وهو يلوّح بكلتا يديه في الهواء:“سنسافر إلى مصر… لنستكشف ما لم يُستكشف بعد!” لم يكن عالم آثار، ولا مغامراً محترفاً، بل كان مفكّراً يقضي أغلب وقته في حل الألغاز والغوص في بحور الكتب.لكن يبدو أن فيلماً وثائقياً غامضاً شاهده ليلاً، أو مقالاً طريفاً في زاوية جريدة صباحية، قد أيقظ فيه حلماً قديماً، كان نائماً منذ عهد الفراعنة أنفسهم. وهكذا، وبدون مقدمات تُذكر، تحوّلت رحلتنا الصيفية العادية إلى “بعثة استكشافية”، وتحوّل أبي إلى مستكشف ميداني من القرن التاسع عشر. أما نحن، العائلة، فوجدنا أنفسنا نستعد للسفر بكل جدية، ونحن لا نزال نحاول تصديق أن كل هذا ما زال مجرد مزحة…فلم تكن مصر ضمن مخططات العائلة أبداً، لكنها مزحة حجزت تذاكر طيران، وفندقاً على ضفاف النيل، وجلبت معها قبعة تشبه قبعات مكتشفي المقابر القديمة. نزلنا في فندق عتيق يطلّ على نهر النيل، غرفة ضيقة بعض الشيء، لكنها تحمل سحراً خاصاً، كأنها عالقة بين زمنين.وفي صباح اليوم الأول، سبقناه إلى قاعة الإفطار، ثم أطلّ علينا وقد ارتدى لباساً لم نعهده عليه من قبل:قميص كتان بلون الصحراء، سروال واسع الجيبين، قبعة مستديرة تذكّر بقبعات علماء الآثار، وحقيبة جلدية يُخيّل إليك أنها تخفي برديات فرعونية. نظرت إليه أمي طويلاً، ثم قالت بابتسامة يائسة:“جيّد أنك لم تأتِ بالجمل إلى هنا… هل ربطته على باب الفندق؟” لكنه لم يبتسم. بل أشار بإصبعه نحو السماء، وكأنه يرى شيئاً لا نراه، وقال:“لن نأخذ سيارة أجرة… سنسلك الطريق كما يسلكه أهل البلد… ففي الزوايا المزدحمة، لا عند النُصب الشاهقة، تُولد الحكايات.” رفعت بصري إلى حيث يشير، فلم أجد إلا جداراً مزخرفاً ببعض النقوش في قاعة الإفطار.قبل أن تنكزني أمي بأسلوبها المعتاد، ولسان حالها يقول:“لا تتبع إصبعه… تتبّع فكرته!” تلك الجملة علّمتني الكثير.فنحن كثيراً ما ننشغل بما يشير إليه الآخرون، ونغفل عما يقصدونه.نراقب الإصبع، وننسى الفكرة.نفهم الحركة، ونفشل في فهم العمق.وقد نخسر جوهر المعنى لأننا ركزنا على الدلالة، لا على المقصود. وهكذا بدأت مغامرتنا… ركبنا حافلة صغيرة بالكاد يتّسع فيها الجالس لأنفاسه، ثم وسيلة أخرى بالكاد تلتقط أنفاسها.تعرّجنا في الأزقة، وسرنا بمحاذاة الأسواق والحواري، وكان والدي في كل مرة يشير إلى جدار باهت أو نقش مهترئ ويهمس:“انظروا… ألا تلاحظون شيئاً؟” ثم يبدأ بشرح تلك النقوش بحماسة، رغم أنها لم تكن سوى خربشات طفل، أو إعلان باهت لمسحوق غسيل، لا تمت للفراعنة بصلة.لكنه كان يعيش أجواء الاكتشاف، وكأن الرحلة بدأت فعلاً، حتى قبل أن نصل إلى الأهرامات. أما نحن، فلم نكن نلاحظ سوى العرق، والإرهاق، وصرير المكابح. مرّ الوقت، وتراكم التعب، وتشابهت الوجوه والطرقات، وبدأنا نشك أننا ما عدنا نسير نحو الأهرامات، بل نبتعد عنها.وحين بلغ بنا الضياع مبلغاً لم يعد يُحتمل، وجدنا أنفسنا، فجأة، وسط الضوضاء الكثيفة في محطة رمسيس، محطة القطارات الرئيسية في القاهرة. نعم، المحطة التي تبعد عن الأهرامات ما يقارب العشرين كيلومتراً…في حين أن فندقنا، عند بدء الرحلة، لم يكن يبعد عنها سوى ثلاثة! جلست والدتي على أحد المقاعد، منهكة الوجه، تتشبّث بحقيبتها وكأنها تمسك بما تبقّى من عقلها.نظرت إليه، وقالت بنبرة لا تخلو من الغضب:“كنا أقرب… فكيف أصبحنا أبعد؟!” أما هو، فجلس بهدوء مفرط، كأنما أنجز اكتشافاً باهراً، ثم قال:“أنتِ لستِ خائفة لأن شيئاً مخيفاً قد حدث… بل لأنكِ فقط، فقدتِ السيطرة.” وتلك كانت الجملة التي فتحت لي باب الإدراك.الخوف لا يبدأ حين يقع الخطر، بل حين نتخلّى عن قدرتنا على الفهم أو التوقع.أنت لا تخاف لأنك في خطر، بل لأنك عاجز عن رسم حدود الواقع من حولك.وحين يتشوش الإدراك، تبدأ الظلال بالتمدد… حتى من أبسط الأمور. وفي تلك اللحظة، حين خفّ الضجيج من حولنا، كأن الزمن قد توقّف لبرهة، نظرتُ إلى الوجوه المتعبة، إلى المقاعد الخشبية، إلى والدي الجالس كمن بلغ غايته دون أن يخطوها… وأدركت شيئاً لم أكن أفهمه من قبل: لم نكن تائهين.بل كنا تماماً حيث أرادتنا الفوضى أن نكون. ليس في ساحة الهرم، ولا على حافة الاكتشافات القديمة…بل هنا، في محطة رمسيس، في قلب الضجيج، وفي حضن العشوائية التي اختارتنا دون أن نختارها. وربما كانت الفوضى أكثر حكمة من خططنا. فما حدث بعدها…كان شيئاً لا يُصدّق. لم يكن الاكتشاف الذي سافرنا لأجله على بُعد كيلومترات، بل كان حيث نحن تماماً.حلم أبي، ذاك الحلم الذي بدا في لحظة ضرباً من المزاح… لم يتحقق هناك، لكنه بدأ أولى خطواته في أبعد نقطة عن مخيلتنا. لم نكن ضائعين أبداً