May 8, 2025May 8, 2025 الحاسة صفر: وهم الإدراك وسلطة العقل في صناعة الحقيقة ما الحقيقة؟ سؤالٌ يبدو ساذجاً لأول وهلة، لكن ما إن يُطرح بجدّية في لحظةٍ من التأمل الخالص، حتى تبدأ جدران اليقين بالارتجاج. نحن نظنّ أننا نعيش في عالمٍ واضح، محسوس، مؤكّد، فكل ما حولنا يبدو قابلاً للفهم بمجرد أن ننظر إليه أو نلمسه. لكن هل ما نراه ونسمعه ونلمسه هو الحقيقة؟ أم مجرّد صورةٍ اختلقها عقلنا ليتعامل مع ما لا يمكن إدراكه بشكلٍ مباشر؟ الفلاسفة منذ قرونٍ حذّرونا من الثقة المطلقة بالحواس. ديكارت شكّ بكل شيء، حتى وصل إلى الفكرة الوحيدة التي لا يمكن إنكارها: أنه يُفكّر، وبالتالي فهو موجود. ولكن حتى هذه “الوجودية” المطمئنة لا تُخبرنا بشيءٍ عن حقيقة العالم الخارجي. ما نراه قد يكون وهماً، وما نسمعه قد يكون صدى لا أصل له. في تجربة الإدراك الحسي الحديثة، يُظهر لنا علم الأعصاب أن الدماغ لا يرى العالم كما هو، بل كما “يجب” أن يكون وفق توقّعاته. الدماغ ليس مجرّد مستقبلٍ سلبيّ للمحفزات، بل خالقٌ نشطٌ للنماذج الداخلية التي تُعرض عليه، ويُفسّر كل ما يأتيه من إشاراتٍ حسية بناءً على ما يتوقع أن يراه، لا على ما هو موجودٌ بالضرورة. نقول إننا نؤمن بوجود الثقوب السوداء، وموجات الجاذبية، وحافة الكون. نؤمن بها دون أن نراها، دون أن نلمسها أو نشمّها أو نسمع صوتها. لم يقترب منها أحد، ولم يختبرها جسدٌ بشري، لكنها أصبحت جزءاً من منظومتنا المعرفية، لأن هناك صوراً، حسابات، علماء قالوا بذلك. هنا يصبح العلم نفسه نوعاً من الحاسة الجديدة، التي تملأ الفراغ الذي تعجز عنه الحواس التقليدية. نحن لا نؤمن فقط بما نراه، بل بما يقنعنا بأنه موجود، حتى لو لم نختبره مباشرة. بل إنّ الأمر أبسط من ذلك بكثير: أنت تؤمن بوجود الصين، رغم أنك ربما لم تذهب إليها من قبل، ولا لمست ترابها، ولا سمعت لغتها من مصدرها، فقط سمعت عنها. أجدادك أيضاً آمنوا بوجودها قبل أن تكون هناك خرائط أو مقاطع مصوّرة، فقط لأن الناس قالوا ذلك. في كثيرٍ من الأحيان، تصبح الحقيقة ببساطة مجرد قصةٍ تتناقلها الألسن، فتستقرّ في العقل الجماعي للبشر، وتتحوّل إلى يقينٍ لا يُناقش. لكن هذا يقود إلى مأزقٍ آخر: إذا كان الإقناع هو مقياس الحقيقة، فماذا لو كان العقل قابلاً للإقناع بأي شيء؟ ماذا لو كانت القناعة نفسها ناتجة عن رغبةٍ، عن ميلٍ داخلي، عن حاجةٍ نفسيةٍ للانتماء أو التبرير أو الأمان؟ ألا يُصبح ما نُصدّقه مجرد نتيجةٍ لمعادلةٍ داخليةٍ تتضمن ميولنا وخوفنا ورغباتنا، وليس نتيجةً لمعطياتٍ خارجيةٍ موضوعية؟ لو أحببتَ فتاة، قد يكفيك دليلٌ واحدٌ على طهارتها لتمضي نحو الزواج بها. لكنك لو كرهتها، فلن تقتنع بألفِ دليلٍ على براءتها. ليست المشكلة في الدلائل، بل في الجهة التي تُقيّمها: العقل. والعقل في هذه الحالة ليس محايداً، بل طرفٌ في المعادلة. إنه يُريد أن يُصدّق أو يرفض، ثم يبحث عن الدليل المناسب لرغبته. الحقيقة هنا لم تَعُد شيئاً ثابتاً، بل صارت مرآةً لما يُريد عقلنا أن يراه. هذا ينطبق حتى على ما نظنّه بسيطاً وواضحاً، كالألوان. نحن نُسمّي هذا اللون “أخضر”، وذاك “أحمر”. ولكن، من الذي قال إن ما أراه أنا أخضر هو نفسه ما تراه أنت؟ لا أحد يمكنه إثبات ذلك. نحن فقط اتفقنا على أن هذا الطيف، عندما ينعكس عن هذه المادة، نُسمّيه “أخضر”. ولكن ربما تراه أنت بلونٍ آخر، وتعلّمت تسميته كما سمّوه، وتفاعلت معه كما يتفاعلون. وهكذا أصبحت الحقيقة اتفاقاً لغوياً، لا تطابقاً حسياً. ورغم هذا، نجحنا في العيش سوياً. لأننا اتفقنا على أسماءٍ ومفاهيم، وعلى ردود فعلٍ متقاربة. فلو قلت لك: “أعطني تفاحةً خضراء”، ستحضرها لي، حتى وإن كنتَ تراها بلونٍ مختلفٍ تماماً عن اللون الذي أراه. حصل التفاهم، فحسبنا أن الحقيقة قد حُسمت، بينما هي في الحقيقة لم تُختبر قط. نحن لا نعرف كيف يرى غيرنا العالم، ولا نعرف حتى إن كنا نراه كما هو، أم كما صاغه عقلنا بحسب ترميزٍ خاصٍ به. من هنا ينبثق السؤال الحقيقي: ماذا لو كان لكل عقلٍ “شيفرته” الخاصة في استقبال المعطيات وتفسيرها؟ كما للبصمات والعينين والحمض النووي تفرّدٌ لا يتكرّر، فربما لعقولنا أيضاً نمطُ فهمٍ لا يتشابه. وهكذا، يكون العالم واحداً، لكن كل عقلٍ يراه بشكلٍ مختلف، ويفسّره بطريقةٍ تختلف جذرياً عن غيره، لكننا جميعاً نعيش في سلامٍ ظاهري لأننا اتفقنا على القاموس. وهنا تظهر الفكرة الأكثر رعباً: ربما ما نُسمّيه “حقيقتنا” ليس سوى كذبةٍ جماعيةٍ متقنة، وهمٌ تشاركيٌّ تعلّمناه منذ الطفولة، وتواطأنا عليه، فصار هو العالم. لكن… ماذا لو وُجدت حاسةٌ أخرى؟حاسةٌ لا تتبع الحواس الخمس، ولا تدخل في باب الحدس، بل تتجاوزهما جميعاً. دعونا نُسمّيها الحاسة صفر. حاسةٌ تستقبل المادة كما هي، قبل أن تدخل في فلتر الحواس والعقل واللغة والتجربة. حاسةٌ تلتقط ما لا اسم له، ما لا طيف له، ما لم يُسمَّ بعد. قد تكون موجودةً داخلنا بالفعل، لكننا لم نتعلّم كيف نستخدمها. وربما نستخدمها فعلاً، لكن عقولنا ترفض ما تأتي به، كما ترفض أحياناً الاعتراف بما تسمعه أو تراه إذا تعارض مع رغبتها أو مصالحها. في هذا السياق، يصبح السؤال عن لون التفاحة سؤالاً جوهرياً: ما لونها الحقيقي قبل أن يصلها الضوء، وقبل أن تترجمها شبكية العين، وقبل أن نُسميها “حمراء”؟ هل للتفاحة لونٌ أصلاً، أم أن اللون مجرّد نتيجةٍ لتفاعل الحواس مع إشاراتٍ فيزيائية تُفسّر داخل الدماغ؟ ماذا لو لم يكن اللون شيئاً في التفاحة ذاتها، بل إسقاطاً من عقلنا على شيءٍ لا لون له؟ علماء الفلك يقولون إن صور الفضاء التي نراها ملوّنة ليست ألواناً حقيقية، بل تمثيلات لأطيافٍ إشعاعية لا لون لها في الأصل. الألوان تُضاف لاحقاً لتقريب الصورة إلى إدراكنا البشري. ربما يكون كل شيءٍ في الكون كذلك: ملوّن فقط لأننا بحاجةٍ إلى معنى، لا لأن المعنى موجودٌ فيه حقاً. وهنا يظهر معنى الحاسة صفر: الحاسة التي لا تترجم ولا تُلبس الأشياء أسماءً أو مفاهيم، بل تلتقط الشيء كما هو، خارج الحواس، خارج اللغة، خارج الذاكرة. وحدها هذه الحاسة قادرةٌ – إن وُجدت – على رؤية لون التفاحة الأصلي. لا اللون الذي تعلّمناه، ولا الذي اتفقنا عليه، بل لونها الحقيقي، الذي لا يُشبه أي لونٍ رآه بشر من قبل. قد لا تكون التفاحة حمراء، ولا خضراء، بل تحمل بداخلها لوناً لا تعرفه أعيننا، ولا تقدر لغتنا على وصفه.لونٌ لا يُرى، لكنه موجود، ينتظر فقط من يُفعّل حاسته صفر. Arabic Random Quotes
Arabic Random Quotes اللاسببية – النقطة العمياء في إدراكنا May 3, 2025May 3, 2025 تخيّل ما تشاء…عوالم بلا زمن، مخلوقات من وهم، حياة خالدة، تنفّس تحت الماء، وعيٌ بلا… Read More
Arabic Random Quotes إختبار الموت December 6, 2022December 19, 2022 -هل ستصدق شخصاً تثق به وأقسم لك أنه يقول الحقيقة؟ -لا -لماذا؟ -لعله يقول ما… Read More
Arabic Random Quotes حتمية الصدفة December 7, 2022December 8, 2022 -ليس خطاً مستقيماً، قال الشيخ رسلان بصوت مرتفع وسط ضجيج فتح الأقفال الحديدة. هل سبق… Read More