May 13, 2025May 15, 2025 لم نكن ضائعين أبداً – الفصل الثاني: كان يبحث عن شيء لا تحويه المقابر… أقدم من الملوك وأخفى من آثارهم لم يكن بيننا وبين الأهرامات سوى سيارة أجرة.رحلة قصيرة… يمكن أن تنتهي في نصف ساعة.لكنّ شيئاً ما كان يعلّقنا في محطة رمسيس، كأننا لا ننتظر وسيلة نقل، بل إشارةً خفيّةً لا يعرفها سوانا. كان أبي جالساً على طرف المقعد الخشبي، لا يتحرّك، لا يتكلّم، يحدّق في فراغٍ لم نكن نراه.ظاهرياً، بدا منهكاً مثلنا… لكنني شعرتُ بشيءٍ مختلف.نظراته لم تكن تائهة، بل مركّزةً أكثر من اللازم – كأن عينه تفتّش عن شيءٍ بين الناس. ثم فعل شيئاً غريباً.أخرج من حقيبته ورقةً صغيرة، مطويةً بعناية.فتحها بهدوء، وما إن وقعت عيناي عليها حتى شعرتُ بقشعريرةٍ تسري في جلدي.لم أكن أعلم لماذا. في زاوية الورقة، كان هناك رسمٌ صغير ليدٍ تحمل هرماً مقلوباً، وتحته عبارة مكتوبة بخطٍّ طفوليٍّ بالعربية.لم تكن خريطة، ولا تذكرة… بل كانت قصاصةً من صحيفةٍ قديمة، يبدو أنها مقتطفٌ من مقالٍ يتحدّث عن الرموز الغريبة المحفورة على جدران الأحياء الشعبية في القاهرة. لم أفهم في البداية لماذا يحمل أبي هذه الورقة معه.الذي أذهلني هو أننا، في الطريق، كنا قد مررنا بذلك الإعلان ذاته.وحين سألته عن ما تعنيه العبارة المكتوبة، قال إنها تعني:“النظافة تبدأ من الداخل!”ولم أفهم كيف عرف معناها، فهو لا يتحدّث العربية… على حدّ علمي.ضحكنا، وتبادلنا السخرية من فكرته الغريبة، وقلنا إنه بالتأكيد محاولةٌ يائسةٌ لدمج رمزية الفراعنة في تسويق الصابون.لكن أبي، حينها، توقّف أمامه أكثر من غيره، وتأمّله بصمتٍ غريب، كما لو أن الإعلان الباهت يحمل له معنى لا نراه… أو كأنه يقرأ فيه رسالةً لم تُكتب لنا.حتى أنا، انتابتني قشعريرةٌ مفاجئة – بدا الرسم كأنه مهيبٌ جداً رغم بساطته الطفولية. والآن، رأيتُ النقش ذاته على الورقة التي في يده.كان أبي ينظر إليه كما لو أنه يحمل شفرةً.وأنا… بدأتُ أرتجف قليلاً.بعض تلك النقوش التي كنا نظنّها تافهة… لم يكن يراها كذلك.كان يقرأ شيئاً لا نقرأه.ولأول مرة، أدركتُ أنه لم يكن يلاحق خرافات… بل كان يتّبع أثراً. وبينما كنت أراقب أبي بصمت، تسلّل إلى ذهني مشهدٌ غريب… لم أكن أعلم من أين جاء، ولا متى حدث:كنا داخل طائرة، تحلّق بنا فوق صحراءَ بلا نهاية. كنتُ أنظر من النافذة، وأرى خطوطاً مستقيمةً محفورةً في الرمال، دوائرَ ضخمةً كأنها رُسمت من أجل عينٍ لا تسكن الأرض.ثم التفتُّ إلى أبي، وكان نائماً… أو هكذا ظننته.لكنه كان يهمس بكلماتٍ لا أفهمها، بلغةٍ لم أسمعها من قبل، وعيناه مغمضتان.ثم اختفى المشهد… كأن أحدهم أطفأه من داخلي، وأعادني إلى المقعد الخشبي في المحطة. وقبل أن أتمكّن من سؤاله، جلس رجلٌ مسنٌّ على المقعد المجاور.يرتدي جلابيةً باهتة، وعمامةً مهترئة، يحمل كيساً من القماش، يمسك بعصاً معقوفة الرأس، توحي بأنها لم تُصنع للمشي فقط، بل لحمل شيءٍ أقدم من الطريق..ملامحه تنضح بغرابةٍ يصعب تفسيرها… بشرته سمراء داكنة، توحي بأنه من تلك المناطق التي ظهرت في أحد مشاهد فيلم جريمة على ضفاف النيل، من بطولة بيتر أوستينوف، الذي كان والدي يصفه دائماً بأنه يجسّد العبقرية دون تكلف. كنتُ قد شاهدتُ الفيلم معه ذات ليلة، وأتذكر مشهداً حيث كان رجلٌ يلوّح للمحقّق بوارو من سوقٍ مزدحم، مرتدياً جلابيةً وعمامةً مماثلتين، يحمل في ملامحه تلك النظرة المزدوجة: كأنه من المكان… لكنه ليس منه. أعدتُ بصري إلى الرجل الذي جلس قربنا، وأدركتُ أنني رأيتُ تلك الملامح من قبل.في السينما؟ ربما.لكن الآن، كانت حقيقيةً تماماً. وكذلك كان هذا الرجل.نظراته ثاقبة، صوته هادئٌ وعميق.شعرتُ للحظة أنه لا ينتمي إلى المكان، كأنه يتنكّر ليبدو واحداً منهم. بدأ الحديث بلغةٍ عربيةٍ ثقيلة، وعندما لم يسمع سوى صدى صوته، انتقل فجأةً إلى الإنجليزية بلكنةٍ بريطانيةٍ واضحة، بلغةٍ أكاديميةٍ صافيةٍ كأنها قادمةٌ من جامعة أكسفورد. قال وهو يبتسم:“هل أنتم تائهون؟” لم يرد والدي. لكنه ابتسم. تابع الرجل وهو يشير بعصاه إلى المسافرين:“كلنا تائهون… لكن ليس بالطريقة نفسها. هناك من يتوه وهو يمشي، ومن يتوه وهو جالس، ومن يتوه وهو يظنّ أنه قد وصل.” ضحكت أمي بخفّة، وكأنها تريد إخفاء خوفٍ غير مبرر، وقالت:“تبدو شاعراً!” ضحك هو أيضاً، ثم أشعل سيجارة، وانقلب صوته فجأة.لم يعد يتحدث كرجلٍ بسيط، بل بدا وكأنه فيلسوفٌ في ملابس مهترئة، وقال بلغةٍ إنجليزيةٍ بطيئة، واضحة، كمن يلقي بياناً في قاعةٍ قديمة: “نحن نظن أننا نعيش ذروة الحضارة،نقيسُ تقدّمَنا بعددِ الأقمارِ الصناعيةِ وعددِ الطوابقِ في ناطحاتِ السحاب،لكن ماذا لو لم نبلغ قمة الإدراك قط؟ماذا لو كنّا قد بلغنا ذروة الآلة فقط،بينما وعينا الحقيقي بدأ بالتآكل منذ آلاف السنين؟قد لا نكون في قمّة الإنسان، بل في قمّة ما اخترعه الإنسان…” سادت لحظةُ صمت.كأنّ المحطة كلها حبست أنفاسها، وتراجع الضجيج احتراماً لما قيل.تلك الكلمات… تعارضت بقوّة مع هيئته الرثّة! أدركتُ أنه قال شيئاً ثقيلاً، ما إن وقعت عيناي على أمي، حتى رأيتُها تحدّق بالرجل، وفمها مفتوحٌ بدهشةٍ نادرة.هذه المرأة لا يعجبها شيء بسهولة… خصوصاً الكلمات.حتى أبي، الذي أمضى حياته بين الكتب، كان ينتقي كلماته معها بعناية.والآن، وقد بدت مصدومةً من وقع كلماته، فهذا يعني أنها كلماتٌ تستحق. أما والدي، فقد ظلّ ينظر إليه، لا بتعجّب… بل كمن وجد شيئاً يعرفه منذ زمنٍ بعيد. ولأول مرة منذ بداية الرحلة…شعرتُ أن الضياعَ لم يكن عبثاً.هناك، وسط الصمت، أدركتُ شيئاً لم أستطع شرحه…وبدأتُ أشعر أن والدي لا يسير بدافع الفضول وحده، بل كأنّ شيئاً ما يقوده.شيءٌ لا يراه أحدٌ سواه.وأنه لم يكن يبحث عن الآثار، ولا عن مومياءٍ أو ضريحِ ملك، بل عن شيءٍ أقدم بكثيرٍ من كل هذا…شيءٍ لا ينتظر في المتاحف، بل في مكانٍ لا تُظهره الخرائط. وكان هذا…مجردَ بداية. لم نكن ضائعين أبداً
لم نكن ضائعين أبداً لم نكن ضائعين أبداً – الفصل الأول: صيف في محطة رمسيس April 24, 2025May 14, 2025 لم نكن ضائعين.لكن الطريق لم يكن واضحاً أيضاً.أحياناً لا تبدأ الرحلة حين تنطلق، بل حين… Read More
لم نكن ضائعين أبداً لم نكن ضائعين أبداً – الفصل الثالث: الهرم المقلوب May 14, 2025May 15, 2025 “نحن نظن أننا نعيش ذروة الحضارة،نقيسُ تقدّمَنا بعددِ الأقمارِ الصناعيةِ وعددِ الطوابقِ في ناطحاتِ السحاب،لكن… Read More