May 14, 2025May 15, 2025 لم نكن ضائعين أبداً – الفصل الثالث: الهرم المقلوب “نحن نظن أننا نعيش ذروة الحضارة،نقيسُ تقدّمَنا بعددِ الأقمارِ الصناعيةِ وعددِ الطوابقِ في ناطحاتِ السحاب،لكن ماذا لو لم نبلغ قمة الإدراك قط؟ماذا لو كنّا قد بلغنا ذروة الآلة فقط،بينما وعينا الحقيقي بدأ بالتآكل منذ آلاف السنين؟قد لا نكون في قمّة الإنسان، بل في قمّة ما اخترعه الإنسان…” ما إن أنهى العجوز كلماته الثقيلة، حتى خيّم على المكان صمتٌ لا يشبه أي صمتٍ آخر… ليس الصمت الذي يلي المجاملات، ولا الذي يسبق الإحراج، بل ذلك الصمت الذي يهبط كغطاءٍ غامض على لحظةٍ غير مفهومة، لحظةٍ ندرك جميعاً أنها ليست عابرة، وإن لم نعرف سببها بعد. ورغم أنني كنتُ طفلاً حينها، لم يكن صعباً عليّ أن أشعر أن شيئاً ما حدث… شيء لم يظهر على السطح، لكنه غيّر شيئاً فينا.ربما بسبب الذهول الذي رأيته على وجه أمي، أو الهدوء الغريب الذي ظلّ يلفّ أبي، أو تلك الابتسامة الغامضة التي ارتسمت على وجه الرجل العجوز… ابتسامة من يعرف أكثر مما يقول، ومن قال أكثر مما يحتمل المقام. ونظري، لا شعورياً، اتجه إلى يد أبي.كان يقبض على الورقة الصغيرة كمن يمسك بمفتاح بيتٍ نسي ملامحه… ورقة مطوية بعناية، لم تكن تبدو مهمة لمن يراها، لكنها كانت في تلك اللحظة أثمن ما يملكه.وقبل أن أفيق من تأمّلي، كان العجوز قد نهض، دون كلمة وداع، ودون أن يلتفت.توجّه نحو مسارات القطارات، متكئاً على عصاه، كأن رحلته لم تبدأ هنا… بل تستكمل فقط طريقاً انقطع، وكان عليه أن يعود إليه. وفجأة… تذكّرت أختي.كانت ما تزال جالسة قرب أمي، تُلاعب دُميتها الصغيرة، تماماً كما كانت قبل الحديث، وكأن شيئاً لم يحدث.العالم، بالنسبة لها، كان لا يزال كما هو… لعبة بيد، ودُمية بالأخرى. أما أمي… فقد تحوّلت.قبل دقائق، كانت خائفة.والآن، صارت الخوف ذاته.نظرت إليه بعينين تقدحان شرراً، وقالت بصوتٍ حاولت أن تحبسه لكنه خرج كريحٍ ساخنة: – هل هذا…؟ هزّ والدي رأسه، ببطء، كمن يعترف بأمرٍ لم يعد ينفع إخفاؤه. قالت وهي تضغط على الكلمات بين أسنانها: – هل هذه هي الإجازة الاستكشافية التي وعدتنا بها؟ قال أبي: – أنتِ تعلمين أن… قاطعته: – لا… لا أريد تبريرات. أريد أن أعود. إلى الفندق. الآن.لن أشاركك هذا الجنون أكثر. في الفندق، اندلع شجار… لكنه لم يكن عادياً.لم يكن صراخًا… بل همسًا غاضبًا، كأنهم يحملون سراً ضخماً، ويخشون أن يسمعه أحد.صرخاتٌ خافتة، عيونٌ تتكلم أكثر من الألسنة، وكأن الصوت الحقيقي لما يجري لم يكن في الكلمات، بل فيما لم يُقال. كنت أنا وأختي نجلس في الصالة.كانت تلعب بدميتها الصغيرة، غارقة في عالمها الطفولي، بينما بدأ شيء غريب يتسلل إليّ.في البداية، كنت أحاول أن لا أُظهر اهتماماً، لكن الفضول بدأ يزحف داخلي.اقتربت من باب الغرفة التي دخلاها، وضعت أذني بلطف، محاولاً أن ألتقط شيئاً. سمعت أمي تقول شيئاً عن “بيتٍ ضاع بلا طائل”.كانت تقصد بيتاً قديماً ورثه أبي، أكبر وأجمل، لكنها تزعم أنه أضاعه في تمويل بحثٍ مجنون.ثم سمعتها تهمس بشيء عن جدي… ومقتله… وعن روما. وصعقني أنني سمعت كلمة “مقتله”.هل قُتل جدي فعلاً؟لم يقل أحد ذلك من قبل. لم أكن حتى أعلم أن موته كان موضع تساؤل.ثم جاءت الكلمة التالية… “روما”.لم أعرف ما الرابط، لكن وقعها كان مريباً… وكأنها ليست مجرد مدينة، بل اسم فصلٍ محذوف من حياة عائلتي. ثم ارتفع صوتها فجأة: – لقد خدعتني!أقسمتَ لي أنك لم تعد تطارد شيئاً… أنك فقط تريد أن تصنع للأطفال رحلةً مليئة بالحماس والدهشة.لكنك كذبت… أنت لا زلت تطارد ذلك الجنون القديم…ذلك الذي تسبّب بموت أبيك. لاحقاً، حين هدأت الأصوات، طرقت باب الغرفة بلطف.فتح لي أبي، وكان شاحب الوجه، أما أمي فكانت تمسح دموعها.جلست بجوارها، فضمّتني وهمست: – سنعود غداً إلى لندن. تقدّم أبي، وضع يده على كتفي، وقال: – لم أكن أعلم أنه سيكون هناك.ظننت أن كل ما عليّ هو تتبع الإشارات. رمقته أمي، وقالت: – متى عدت للتواصل معهم؟ قال: – قبل شهر.أرسلوا لي هذه القصاصة، ومعها رسالة قصيرة… “الأمر قد تم”. – وماذا يعني ذلك بالضبط؟– ربما… ربما أنهم عثروا على شيء لا يجب قوله في رسالة بريدية. قالت أمي بصوت منخفض: – أتمنى فقط… أن لا يكون كل ذلك المال قد ذهب هباءً. قال أبي: – رأيتِ العصا، أليس كذلك؟ – لم ألحظ شيئاً غريباً. – على العصا نقوش… أحدها مثلث مقلوب، وتحتها رموز هيروغليفية: عين نصف مفتوحة، وثلاث خطوط عمودية، وخط أفقي تحتها… “ستُبعث الرؤية حين يُقلب الهرم…والعين التي لم تولد بعد، سترى ما نُسي قبل أن يُكتب.” لم أكن أفهم شيئاً مما يقول… لكن نبرته جعلتني أشعر أن الأمر أعظم مما يبدو.كأنه يقرأ تعويذة لا يعرف أحد إن كانت حقيقية. ثم أكمل: – العين غير المكتملة… هي الإدراك الناقص.– الخطوط الثلاثة… التكرار، أو البعث.– الخط الأفقي… حاجز الزمن. ثم تنهد، وقال: – المثلث المقلوب؟منذ أن أرسلوا لي القصاصة، وأنا أبحث عن غايتهم من هذا الرمز تحديداً.لا يوجد له أي أثر في الحضارة المصرية القديمة.لم يُذكر في أي بردية، ولا ظهر في أي نقش… بل لم يُعترف به أصلاً كرمز مصري.فأجريت بحثاً موسعاً، وقارنت بين الرموز، حتى أدركت شيئاً أثار فضولي: – في الهند القديمة، كان المثلث المقلوب رمزاً للأنثى، طاقة الخلق، مبدأ التكوين، واتحاد العناصر في رحمٍ واحد.يرمز إلى الماء، إلى الانحدار، إلى بداية الحياة. – في اليونان، استخدموه لتمثيل عنصر الماء أيضاً، باعتباره المكوّن الأول لكل شيء، وفق فلسفة أناكسيمانس وثاليس.كانوا يعتقدون أن الماء هو الأصل، والهرم المقلوب هو صورته الكونية. – أما في أنظمة الشاكرات، فهو تمثيل لمركز الخلق، شاكرا السُّرّة… حيث تبدأ الطاقة وتصعد نحو الوعي.ليس مجرد شكل… بل شفرة مخفية لطاقة الحياة. لم يكن يوماً زينة.بل كان رسالة.إشارة إلى الطاقة الأولى… التي سبقت النحت، والكلمة، وحتى الزمن. ثم سكت، ونظر نظرة حادة، كأنه يوشك أن يعترف بشيء دفنه سنين: – جميع الحضارات كانت تقلّدهم، أو ورثت شيئاً عنهم.لقد بنوا أهرامات مثلهم، لكن… كم هو غريب أن جميعها ظهر فيها معنى للمثلث المقلوب، إلا حضارة واحدة: مصر القديمة! قالت أمي وهي تعقد حاجبيها: – ماذا تقصد؟ قال وهو يزفر: – لا أعلم بعد…لكن من المنطقي أن نتساءل: لماذا وضع قدماء المصريين رموزاً لكل شيء… عدا هذا الرمز؟ قالت أمي بنبرة ساخرة، فيها ظل ابتسامة: – ربما كان مقدّساً عندهم، فلم يريدوا إهانته بقلبه؟ ثم برقت عيناها فجأة، كأنها في لحظة نسيت كل غضبها، وقالت: – يا إلهي… هل تقصد أنهم وجدوا الرمز؟ ابتسم أبي ابتسامة دافئة، لم تكن ابتسامة انتصار، بل عودة: – هل قد عدتِ يا حبيبتي…؟ أدارت وجهها قليلاً، ثم قالت وهي تحاول أن تخفي تراجعها: – دعك من هذا… سأسافر غداً، لكن لا بأس…أود أن أفهم… قليلاً. ضحك، ضحكة خفيفة، كأنه كان يعلم أنها ستعود…أنها، في مكانٍ ما داخلها، لم تغادر هذا الطريق أصلاً.طريق بدا أنها شاركته فيه يوماً، قبل أن تنسحب. قال بهدوء، بينما كانت عيناه تنظران من النافذة باتجاه الأهرامات التي لم أرها بعد: – وما السر الخطير في العثور على نقش فرعوني فيه مثلث مقلوب؟وهل خربشة قديمة على ضريح ما يحمل هذا الرمز… تستدعي كل هذه السرية؟ لحظة صمت، تفكر فيما قاله، ثم للمرة الثانية اليوم فتحت أمي فمها بدهشة.برقت عيناها، أعادت ظهرها إلى الكرسي كمن خارت قواه كلها دفعة واحدة.ازدادت سرعة أنفاسها.شيء عصف في ذهنها… فكرة مجنونة ربما! ثم لحظة طويلة من الصمت.كأن عقلهما غاص فجأة في عمق لا يُقال. أما أنا… فلم أفهم كل شيء.لكنني رأيت في عيني أبي ذلك البريق…بريق رجلٍ لا يلاحق وهماً، بل يقترب من سرٍّ ظلّ يطارده لسنوات. وشيء ما داخلي، رغم طفولتي، صدّق أن هذا السر… موجود هنا. رمز الطاقة الأولى… الشرارة الأصلية… لم نكن ضائعين أبداً
لم نكن ضائعين أبداً لم نكن ضائعين أبداً – الفصل الأول: صيف في محطة رمسيس April 24, 2025May 14, 2025 لم نكن ضائعين.لكن الطريق لم يكن واضحاً أيضاً.أحياناً لا تبدأ الرحلة حين تنطلق، بل حين… Read More
لم نكن ضائعين أبداً لم نكن ضائعين أبداً – الفصل الثاني: كان يبحث عن شيء لا تحويه المقابر… أقدم من الملوك وأخفى من آثارهم May 13, 2025May 15, 2025 لم يكن بيننا وبين الأهرامات سوى سيارة أجرة.رحلة قصيرة… يمكن أن تنتهي في نصف ساعة.لكنّ… Read More