May 22, 2025June 1, 2025 الفصل الخامس: الضلع الذي لا يصعد ابتعدت السيارة شيئاً فشيئاً عن الطريق الرئيسي، وتوغلت بنا في ممر ترابي ضيّق، لا وجود فيه لأي لافتة، ولا أثر لأي عابر.كأنّ المدينة أغلقت بابها خلفنا، وتركتنا وحدنا في حضن الجبل.عجلات السيارة تنوء فوق الحصى، والاهتزازات تزداد، حتى خيّل إليّ أنها تتردد بين أن تكمل… أو تعود.لكنها لم تتراجع. وحين وصلت إلى منطقة مرتفعة قليلاً، خفّف جرجس السرعة، ثم أوقف السيارة بجانب صخرة ضخمة، ونزل.دار حول المركبة بخطوات هادئة، ثم فتح لنا الباب الخلفي، وقال بصوته الواثق:– وصلنا.تلك الكلمة… “وصلنا”.لم يقل “ها نحن هنا” أو “اقتربنا”، بل نطقها كأنّه يعرف إلى أين نذهب.بل الأغرب، أنه نطقها وكأننا نذهب إلى مكان مخطّط له… مع أننا، نحن، لم نكن نعرف أصلاً ما الذي نبحث عنه. نزلنا، لكن أمي تأخرت قليلاً، كانت تمسك يد أختي الصغيرة بقوّة خفيفة، وهمست لوالدي:– هل أنت متأكد من هذا الرجل؟ المكان مهجور… تماماً.أجابها أبي بصوت مطمئن:– جرجس سائق رسمي من الفندق. ورحلتنا مسجّلة ضمن جدول الرحلات. أغمضت أمي عينيها للحظة، وتنهدت، كأنها تذكّرت أن هناك ورقة تثبت ذلك بالفعل… لكن القلق ظلّ يختبئ خلف ملامحها.أرادت أن تُقنع نفسها، فابتسمت بتكلّف، فردّ أبي بنبرة مرحة:– وهل تظنين أن تلك الساعات التي قضيتها في نادي بناء العضلات ستذهب هباءً إذا قرر السائق سرقتنا؟ رمقته بنظرة تهكّم، وقالت:– لقد كانت زيارة يتيمة… يومٌ واحد فقط، ونمت أسبوعاً في الفراش بسبب التشنجات.ضحكا. حتى أنا ضحكت. وأختي لم تفهم، لكنها ضحكت معنا. بدأنا نسير خلف جرجس عبر طريق مائل ينساب بين صخور باهتة.لسنا في قمة الجبل بعد، بل قريبين منها، على ارتفاع يقارب المئة وعشرين متراً، في مستوى مرتفع.الجبال ساكنة، والهواء ساكناً… كل شيء حولنا بدا كأنه يتنفس بهدوء ثقيل. ثم توقف جرجس، وانحنى ليلتقط عصاً خشبية قديمة ملقاة على الأرض، نفض عنها الغبار، وأشار بها إلى جزء من الجدار الحجري:– هذا الجزء تعرّض لانهيار سنة 1960، قبل 28 عاماً. لا أحد يهتم بهذه المنطقة، لكنني أردت أن أريكم إياها أولاً. اقتربنا. رأيت جداراً صخرياً مشقوقاً، لكن ليس كأي شق.الشق بدا كأنه ضُرب بعناية. لا تشققات عشوائية، بل زاوية حادّة… منتظمة. قال جرجس وهو يمرر طرف العصا على الحافة:– انظروا هنا… هذه ليست تآكلات طبيعية. هذه ضربات. يبدو أن أحدهم أجرى عمليات حفر خفيفة، خلسة… ربما منذ سنين. تشبه آثار الفؤوس، لكنها أدقّ. انحنى والدي أمام الجدار، وبدأ يتفحّص الزاوية بتمعّن.ثم سحب من حقيبته دفتراً صغيراً، مزّق منه ورقة، وبدأ يتحرّك بها على طول الجدار، يثبتها تارةً بمساعدة الحجارة، وتارةً يطلب منّا أن نعيد الإمساك بها في مواضع مختلفة. يقيس الميل في ثلاث نقاط متباعدة على امتداد الخط الصخري، كمن يبحث عن اتساقٍ رياضي لا يعرف إن كان موجوداً فعلاً. بعد دقيقة من الصمت، قال:– الميلان هنا واضح… قريب من 30 درجة.ثم تردد، كأن فكرةً بدأت تتشكل في ذهنه، وقال:– هذا الميل يشير إلى أن البنية، إن كانت موجودة، تتسع كلما صعدنا. أي أنها أعرض في الأعلى منها في الأسفل… ثم تراجع خطوة إلى الوراء، حدّق في الجدار، وأضاف:– لو افترضنا أن هذا الضلع يمتد من رأس هيكل ما حتى هذا الارتفاع… فطوله سيكون بحدود 150 متراً. رفعت أمي حاجبيها:– وماذا يعني هذا؟ ردّ بصوتٍ أبطأ، كمن يرسم شيئاً في ذهنه:– هذا يعني أن الرأس قد يكون مدفوناً في أعماق الجبل… وأننا نقف الآن عند حافة قاعدةٍ عريضة. ثم انهمك في حساباته، يرسم خطوطاً على الدفتر، ويقيس الزوايا بأصابعه، ويقارن بين المدى والارتفاع، ثم تمتم:– الطول الكامل للقاعدة سيكون بحدود 190 متراً… إن كان هذا فعلاً ضلعًا من هيكل ما.. ثم نظر حوله، ببطء، وقال:– هذا المستوى من الجبل… يُمكن أن يخفي بسهولة قاعدةً ضخمة لبناء مدفون… لو كانت موجودة. وهنا… جاء صوت جرجس من الخلف، ناعماً، لكنه جافٌ كالصخر:– الهرم… المقلوب. تجمّدت اللحظة.تجمّد الزمن.توقفت أنفاسي.كأن تلك الكلمة لم تُقل… بل طُعنت في المكان.شعرت بشيءٍ داخلي يرتجف. نظر أبي إليه، وعيناه ضيّقتان، وقال بصوتٍ حادّ، لكن منخفض:– ماذا قلت؟ لم يردّ فوراً. كمن أدرك أنه قال ما لا يجب قوله.نظر إلينا، ثم إلى الجدار، ثم إلى لا شيء:– آسف… ربما مجرد خرافة. اقترب منه أبي:– أي خرافة؟تنفّس جرجس ببطء:– جدّي كان رجلاً بسيطاً. عمل مع بعثة بريطانية هنا، في بداية الأربعينات. كان نجاراً، يصنع الصناديق لأدواتهم. أخبرني ذات مرة… أنهم تحدثوا عن هرمٍ مقلوب، قالوا إنه بُني في زمن لا يُعرف، بيد بشرٍ لا نعرفهم… يتهامسون وكأن وجوده شرطٌ لوجود كل ما حوله. يقولون: لولا هذا الهرم، لما استقامت الحضارات… ولا معنى لكل ما بُني فوقه. جدّي لم يفهم شيئاً، قال إنهم يتحدثون بالألغاز… لكنهم كانوا خائفين، رغم أنهم لم يقولوا لماذا. – شيء مثل ماذا؟– لا أعلم. لم يُكمل القصة. فقط قال إنهم كانوا يتهامسون ليلاً، ويتجادلون حول رسمةٍ خفية، وقاعدةٍ مدفونة… وظلّ يكرّر: “ليس كل ما بُني ظهر… وليس كل ما دُفن طُمس.” ابتداءً من هذه اللحظة، لم يعد جرجس يبدو كسائق سيارة فندقية… بل بدا كأنه عالم آثار بالصدفة، رجل يعرف أكثر مما يقول، وكأن القدر جمع بيننا لسببٍ لا نفهمه بعد.جلستُ على صخرة صغيرة، أفكّر في هذه المصادفة الغريبة التي جمعتنا… وهل كانت مصادفة فعلاً؟واقفاً، يحمل عصاه كأنها امتداد لذاكرة قديمة، وينظر إلى الحجارة كما ننظر نحن… لكن نظرته كانت مختلفة.كأنه دخل اللعبة فجأة، لمجرد أنه سمع جملة من جده… وكأنّ المكان نفسه يعرفه.وبلا سبب، تذكّرتُ العجوز في محطة رمسيس. أردت أن أسأل أبي عنه، كيف ظهر، ومن يكون… لكن شيئاً ما ألجم لساني. جلس أبي على صخرة منخفضة، وبدأ يرسم شيئاً ما في دفتره.سألته، وأنا أحدّق في الصخور:– هل يمكن لشيء أن يوجد… قبل الجبل نفسه؟ رفع رأسه:– الجبل هنا، في المقطم، تشكّل من رواسب بحر قديم، اسمه بحر تيثيس. كان يغمر هذه المنطقة قبل ملايين السنين، ثم انحسر. سألته أمي:– وكم مضى على ذلك؟ قال:– بين 50 و60 مليون سنة تقريباً. هزّ جرجس رأسه بدهشة، وقال:– يا إلهي… هل كان هناك بشر أصلاً قبل 50 مليون سنة؟ أجاب، وقد بدا عليه التردّد:– بحسب العلم الحالي…لا. أقدم إنسان عاقل نعرفه الآن عاش قبل نحو 100 ألف سنة. لكن آثاراً بشرية بدائية، تعود إلى ما يقرب من مليونَي سنة، وُجدت بالفعل… لكنها لم تكن لحضارة. مجرّد أدوات متناثرة… حجارة، لا مبانٍ. أمي وهي تنظر إلى الزاوية الحادة:– وإذا كانت هذه الزاوية فعلاً جزءاً من هرم مقلوب… فهذا لا يعني فقط وجود بناء… بل وجود من بناه، وفكّر فيه. أجابها، كمن يغمغم أكثر مما يشرح:– لو كانت هناك حضارة قديمة جداً، ثم غمرها بحرٌ لملايين السنين، ثم تراكمت فوقها طبقات، وتكوّن الجبل… فلن يتبقّى منها شيء على السطح.ثم نظر إليّ:– كل شيء فعلوه… سيكون مغطى… مثل هذا تماماً. سأل جرجس، وهو لا يزال يحدّق في الصخور:– ولكن… ماذا لو لم يتشكّل الجبل في قاع البحر أصلاً؟ هل أنت واثق من هذا؟ أجابه بثقة هادئة:– بحسب ما يقوله الجيولوجيون، فإن طبقات المقطم مليئة بالأحافير البحرية. القشرة الكلسية، وتناوب الحجر الجيري والطفلة، كلها دلائل على بيئة بحرية ضحلة، كانت تغمر هذا المكان قبل 50 أو 60 مليون سنة. لا يوجد تقريباً أي رأي علمي ينكر أن الجبل تشكّل في قاع البحر القديم. أمي، وكأنها تراجع معلومة قرأتها يوماً:– لكن… ماذا عن الأمطار القديمة؟ أذكر أن بعض الباحثين أشاروا إلى أن شمال إفريقيا ربما كانت أكثر خصوبة قبل آلاف السنين… هل من الممكن أن تكون قد أحدثت تأثيراً مشابهاً؟ أجابها بعد تفكير قصير:– الأمطار الغزيرة تركت أثراً على بعض التكوينات السطحية، نعم… لكنها لم تكن كافية لنحت أو تكوين طبقات رسوبية بهذا العمق والتراكم.ثم أضاف، كمن يحاول فتح باب جديد للتأمل:– لكن، إن افترضنا أن هذا الهيكل لم يكن قبل البحر، بل جاء بعده… فربما لم يُدفن، بل أُخفي. نظرت إليه أمي بدهشة:– ماذا تعني؟ – أعني أن الجبل نفسه يحتوي على كهوف طبيعية، وشقوق داخلية تكونت على مدى ملايين السنين… بعضها عميق بما يكفي ليُخفي بناءً كاملاً. قال جرجس، وقد اقترب خطوة:– وكأنهم لم يبنوه تحت الجبل… بل في قلبه. أومأ أبي:– بالضبط. قد يكونوا استغلوا الفراغات الجيولوجية، أو وسّعوها بهدوء… فصار الجبل غلافاً طبيعياً. غلاف لا يكشف شيئاً، ولا يمكن أن يُكتشف… إلا صدفة. اقتربت من إحدى الزوايا البارزة، ومررت يدي فوق الخط.قلت في نفسي، وأنا أتحسس الخط كأنني أتحسس خريطةً لشيءٍ لا أراه:لحظة… هل نحن حقاً نصدّق هذا؟ مجرد خط على جدار حجري متهالك، وتحليل ميلان يدوي… وفجأة صرنا نتحدث عن هرم مقلوب مدفون تحت الجبل؟ أي جنون هذا؟ هل يعقل؟ كل هذا الحديث عن هياكل مدفونة، عن هرم مقلوب، ونحن في النهاية أمام شقّ واحد فقط… مجرد زاوية، قد تكون طبيعية تماماً.لكن شيئاً في داخلي كان يهمس… لم يكن حجراً فقط.بل هو أشبه بندبة… أو أثر جرح قديم.شيءٌ ما هنا، لا يريد أن يُنسى.لكنّه لا يريد أن يُكشَف… بسهولة.كأنّ الصخور تنتظر من يفهمها، لا من يحفرها. ثم، من خلف هذا الصمت المتأمل، تسلّل صوت غريب… خافت، كأن الريح تداعب شيئاً مجوفاً.نظر جرجس حوله ببطء، ثم قال بنبرة منخفضة:– الغريب… أن أحدهم ربما كان هنا قبلي.لم يشرح، ولم نرد. كأن الجبل قرر أن يقول شيئاً… ثم تراجع. نظرت إلى الجدار مرة أخرى، ومددت يدي نحو الزاوية.الملمس مختلفاً قليلاً في هذا الموضع… أكثر نعومة، كأن أحدهم مرّ عليه مرات عديدة.ثم مالت أمي للأمام قليلاً، وقالت بصوت خافت:– هل سمعتم ذلك؟لم يُجب أحد.لكنني شعرت… أن شيئاً ما، أو أحداً ما، كان يستمع لنا من الداخل. كانوا يحاولون كشف القلب بالحسابات والمنقاش وأوراق الرسم… لكن ربما، فقط ربما، هناك شيء هنا يمكن رؤيته دون هذا كله. شيءٌ لا يُقاس… بل يُلتقط. لا يُبرهن عليه… بل يُحَسّ.وكأنني… كنت أعرف هذا المكان، حتى قبل أن أصل إليه. لم نكن ضائعين أبداً
لم نكن ضائعين أبداً الفصل التاسع: عالق بين حضارتين June 1, 2025June 1, 2025 شيء ما ارتجّ في أعماقي.لم يكن ألماً، ولا خوفاً، بل كأنّ عالماً كاملاً انفصل عني… Read More
لم نكن ضائعين أبداً الفصل السابع: أوصياء آسيريا May 25, 2025June 1, 2025 لم يكن الجدار هو النهاية. ولا كانت اليد التي تمسك بالهرم المقلوب سوى إشارة أولى… Read More
لم نكن ضائعين أبداً الفصل السادس: الكلمات التي سبقتنا May 23, 2025June 1, 2025 تراجعنا عن الجدار الحجري الذي توقفنا عنده في الممرّ الأول، لكن لم يكن فينا من… Read More