“ستُبعث الرؤية حين يُقلب الهرم…
والعين التي لم تولد بعد، سترى ما نُسي قبل أن يُكتب.”
هدأت الأصوات أخيراً تلك الليلة.
لم تكن المدينة صامتة، بل بدت كأنها تنحني قليلاً، تخفّض إيقاعها وتنسحب إلى ظلال الأزقة.
في الفندق، كانت والدتي تجلس قرب النافذة، تحدّق في ظلال الأضواء المرتجفة على سطح النيل، كأنها تقرأ في الماء شيئاً لا يُقرأ.
والدي كان في الجهة المقابلة من الغرفة، يتظاهر بالقراءة، لكن الصفحات لم تكن تتحرك.
أما أختي، فقد غفت على السجادة، محتضنة لعبتها الجديدة – تمثالاً فرعونياً صغيراً بعينين من حجرٍ أزرق – وهي تهمس بكلمات لا تُفهم، كلمات من عوالمها التي لا نبلغها نحن الكبار.
وأنا… كنت قد تمددتُ على السرير، أحاول أن أستدعي النوم، لكنّ شيئاً في داخلي كان يقظاً.
لم تكن عيناي مفتوحتين، ولكنني لم أنم.
كنتُ أنتظر شيئاً لا أعرفه… وأجهله.
لم أعرف متى انزلقت من اليقظة إلى الحلم، لكن فجأة كنت هناك.
أرضٌ حجرية تمتد تحت قدمي، باردة كأنها لم تلمسها شمسٌ منذ قرون.
ممرّ ضيّق، منخفض السقف، محفور في الصخر، لا مصابيح، لا مشاعل… لكنّ الجدران تتوهّج بلونٍ لا لون له.
لم يكن الضوء يأتي من مصدرٍ ظاهر، بل من الحجر نفسه، كما لو أنّ الصمت قد استحال وهجاً.
كان الممر يتقدّم بي، أو كنتُ أنا أتقدّم فيه، لا أدري.
وفي نهايته، ظهر جدار.
لكنّه لم يكن نهاية… بل بداية.
هناك، في مركز الجدار، كانت اليد.
منحوتة بعمقٍ في الحجر، تمسك بهرمٍ مقلوب، لا كرمز، بل كفعلٍ جارح.
كأنّ اليد تنزع الهرم من أعماق الأرض، أو تدفنه بقسوة متعمّدة.
ثم جاء الصوت.
لم يكن صوتاً بشرياً.
بل كان كأنّ الحجارة نفسها تتمتم، بصوتٍ عتيقٍ هشّ، أشبه بما قد يقوله الرمل لو استطاع أن ينطق:
“حين تولد الرؤية… سيعود من لم يُدفن.”
استيقظت.
لم أصرخ، لكن أنفاسي كانت مقطوعة، وقلبي يضرب صدري كأنّه يبحث عن مخرج.
كان الظلام في الغرفة مألوفاً… لكنه لم يكن كما كان.
في صباح اليوم التالي، ظننت أنّه محض حلم… هلوسة خفيفة من أثر ما سمعته تلك الليلة.
قررتُ أن أتصرف كأنّ شيئاً لم يكن.
نزلنا إلى قاعة الإفطار في الطابق الأرضي.
القاعة كانت رحبة، تغمرها أنوارٌ خافتة تتسلل عبر النوافذ الطويلة المطلة على النيل، ورائحة القهوة تختلط بصوت الملاعق والفناجين، وهمسات السائحين بلُغاتٍ لا تُجمع على معنى.
جلست والدتي قبالة النافذة، صامتة كأنها ما تزال تفتّش في الليل عن تفسيرٍ لم تجده.
والدي كان يتفحّص منشوراً سياحياً مطويّاً بعناية، يُقلّبه دون أن يفتحه.
أما أختي، فكانت تبني من مكعبات الزبدة والسكّر هرماً صغيراً على طرف الطاولة، ثم صاحت بفرحٍ طفولي:
– انظروا! هذا الهرم لي، وأنا الملكة!
ضحك أبي، وربّت على رأسها.
– لا شكّ أنّكِ الملكة… لكنّ هذا الهرم صغيرٌ على سلطتك.
قالت أمي وهي ترشف قهوتها:
– بعد الإفطار، لنذهب إلى الأهرامات. لقد وعدتنا.
أومأ أبي، وقال بنبرةٍ أرادها خفيفة:
– بل نذهب، ونُرضي التاريخ قليلاً… علّه يرضى عنّا.
لكننا لم نذهب في ذلك اليوم.
بعد الإفطار، خرجنا في جولة قصيرة وسط المدينة القديمة.
زرنا المتحف القبطي، ثم تهنا قليلاً في أحد الأسواق الشعبية، حتى عدنا قبيل الغروب منهكين من الحرارة والزحام.
قالت أمي في المصعد:
– نترك الأهرامات لنهارٍ كامل… لا تليق بها الزيارات العجلى.
فردّ أبي مبتسماً:
– بل نزورها حين نكون مستعدّين للدهشة.
وفي تلك الليلة… عادت الرؤيا.
ذات الممر. ذات الجدار. ذات اليد.
لكنّ شيئاً ما كان مختلفاً.
الجدران صارت أقرب، والنقش بدا أكثر عمقاً، واليد لم تعد تمسك الهرم فقط… بل كانت تحفر تحته خطوطاً متشابكة، كأنّ هناك رمزاً أعمق يُراد إظهاره.
ثم جاء الصوت.
لكنّه لم يكن كالمرّة السابقة.
كان أقرب. داخلياً.
كأنّ الجدران لم تعد تتكلّم وحدها… بل دخلت جسدي، واستقرت فيه:
“أنت لا ترى… بل تتذكّر.”
وفي اليوم الثالث، أوفى أبي بوعده.
أخذنا إلى الأهرامات.
تحت شمسٍ لا ترحم، ووسط الزحام، قطعنا الطريق عبر الرمال، تسلّقنا، وقفنا لالتقاط الصور، استمعنا إلى مرشدين لا نعرف إن كانوا يقولون الحقيقة أم مجرّد سردٍ محفوظ.
أما أختي، فكانت ترسم بعصاها الصغيرة خطوطاً في الرمال، تنظر إليها كأنها خرائط لا نفهمها، وتضحك دون سببٍ واضح.
وفي لحظةٍ عابرة، وأنا ألتفتُ نحو الأفق، رأيت بين الصخور شيئاً.
ظلّاً سريعاً… كأنّ النقش قد طُبع هناك للحظة، ثم اختفى.
رمشت… فلم يعد له أثر.
وفي تلك الليلة… لم ينتظرني الحلم.
بل كنتُ بداخله منذ اللحظة الأولى.
الممر كان يهتزّ. الجدران تنبض.
والنور ينبعث من أعماق الصخر.
وكان الجدار هناك، ينتظر.
لكن اليد هذه المرّة لم تكن تمسك الهرم… بل كانت تغرزه في الأرض.
والأصوات… لم تكن واحدة.
بل كانت عشرات. مئات.
كأنّ المكان كلّه قد استيقظ.
كأنّ الزمن نفسه بدأ يتكلّم:
“الذي في الأرض… سيقلبُ السماء.”
استيقظت.
وجلستُ على السرير، دون أن أُفكّر.
ثم وقفت.
لم أعد أحتمل الصمت.
اقتربت من أبي في الصباح، وقلت له بصوتٍ لم أعرفه:
– الحلم ليس حلماً. إنه يتكرر. كل ليلة.
في كل مرة يصبح أعمق… وفي كل مرة يحدث شيء جديد.
الليلة… الجدران كلّها كانت تتكلّم.
نظر إليّ والدي.
وفي عينيه لم أرَ الدهشة… بل ما هو أخطر منها.
رأيتُ المعرفة.
صمت برهةً طويلة، ثم قال بهدوءٍ مثقل:
– احكِ لي كل شيء… من البداية.
لم يتناول والدي قهوته ذلك الصباح.
ظلّ يحدّق في الفراغ، كأنّه ينتظر من الصمت أن يعطيه إجابة.
كنتُ بجانبه، أحرّك ملعقتي في كوب العصير، أستعيد تفاصيل الحلم كما يستعيد أحدهم ألماً قديماً لا يعرف كيف يسكته.
أما أمي، فكانت تُقلب صفحات كتيّب سياحي بلا اهتمام، كأنها تمارس طقساً بطيئاً للهرب من التفكير.
بعد الإفطار، قال أبي وهو يدفع كرسيه إلى الخلف:
– سأذهب إلى الاستعلامات قليلاً. قد أحتاج مساعدة في شيء.
كان الموظف خلف المكتب، رجلاً خمسينيّاً ببذلة رمادية وربطة عنق محكمة، يكتب شيئاً في سجلّ ورقي.
اقترب أبي، وقال بنبرة هادئة:
– صباح الخير… لديّ استفسار غير اعتيادي.
رفع الموظف نظره باهتمام:
– بكل سرور، كيف يمكنني مساعدتك؟
قال أبي:
– وصف لي صديقٌ مكاناً أثار فضولي، لكني لا أستطيع تحديد موقعه. قال إنه مرّ بممرّ ضيّق محفور في الصخر، ليس كهفاً طبيعياً، بل يبدو كأنه من صنع البشر. الجدران كانت عارية، بلا نقوش، بلا زينة، لكن النهاية حملت جداراً غريباً، ربما عليه رمز أو نقش غير واضح. وكان يشعر بأنّ الضوء لا يأتي من مصدر ظاهر، بل كما لو أنّ المكان نفسه يضيء.”
تأمّل الموظف للحظة، ثم فتح أحد الأدراج وأخرج عدّة كتيّبات سياحية مصوّرة.
بدأ يتصفّحها وهو يقول:
– هذا وصف نادر… لكنه يذكّرني ببعض المواقع الجانبية غير المشهورة. لدينا هنا معبد قديم في عين شمس… لكنه مفتوح تماماً، بلا ممرات داخلية. وهنا مقام صغير تحت أحد القناطر القديمة، وهناك كهف روماني قرب الهضبة الشرقية، لكنه مهجور منذ سنوات.
ثم جمع الكتيّبات ومدّها إله:
– خذ هذه المجموعة. ربما تجد فيها ما يُشبه ما وصفه صديقك، أو يثير انطباعاً مشابهاً على الأقل.
ولا تتردد في استئجار سيارة خاصة من الفندق إن رغبت بجولة طويلة، فبعض هذه الأماكن خارج المسار المعتاد.
أومأ أبي شاكراً، ثم عاد إلى الطاولة. ووضع مجموعة من الكتيّبات المصوّرة أمامنا.
قال وهو يجلس:
– الموظف لم يعطِني مكاناً بعينه… لكنه اقترح بعض المواقع التي قد تشبه ما تراه في الحلم.
أخذت أمي واحداً بعنوان “المعالم غير التقليدية في القاهرة”، وبدأت تقلب صفحاته بلا استعجال.
أما أنا، فمددت يدي إلى كتيّب أزرق اللون، عليه صورة مدخل حجريّ شبه مطمور، وبدأت أتنقّل بين صفحاته.
صورٌ كثيرة… بعض المقامات المنسية، ممرّات حجرية قرب القناطر، كهوف في أطراف المدينة، ومعابد نصف مهجورة.
ثم، فجأة، توقفت عند صورة واحدة.
تُظهر ممرّاً ضيّقاً من الحجر الخام، منحنياً قليلاً، بلا أعمدة ولا زخارف… فقط جدران ملساء تنكمش كلما تعمّقتَ فيها.
شيء ما في الصورة جعل أصابعي تتوقّف.
قلت بهدوء:
– يشبه هذا… كثيراً.
كأنّه هو… أو كأنّه المكان الذي رأيته، أو شيء قريب جداً.
اقترب أبي وألقى نظرة، ثم أومأ.
– لا بأس. فلنجرب هذا أو ما يقاربه. ما دام في القاهرة، يمكننا الوصول إليه.
ثم عاد إلى موظف القاعة، وطلب منه حجز سيارة من الفندق ليومٍ كامل.
ولم تمضِ سوى دقائق، حتى كانت السيارة في انتظارنا عند المدخل الرئيسي.
السائق رجلاً أربعينيّاً أنيقاً، يرتدي قميصاً نظيفاً وبنطالاً داكناً، ملامحه ودودة، ونظرته فيها اتزان لا يُخفى.
قال وهو يفتح الباب لأمي:
– صباح الخير. اسمي جرجس، وسأكون مرافقكم اليوم. سأقودكم إلى أي مكان ترغبون في زيارته.
ركبنا جميعاً، وانطلقت السيارة على مهلٍ في شوارع القاهرة.
بعد قليل من الانطلاق نحو المكان الذي اختاره والدي بناءً على الكتيّبات – مقام صخري مهجور في أطراف القاهرة الشرقية، مهجور منذ عقود لكنه مذكور أحياناً في مسارات سياحية ثانوية – بادر السائق بالحديث:
– المكان الذي اخترتموه جميل… المكان ليس مزاراً رسمياً، السياح لا يطلبونه كثيراً… لكنه مذكور أحياناً في الكتيّبات الخاصة.
قال أبي وهو يستدير إليه:
– في الحقيقة، أنا لا أبحث عن المكان نفسه، بل عن شيء يشبه وصفاً أعطاني إياه صديق. قال إنه دخل ممرّاً حجرياً ضيقاً، محفوراً بالكامل في الصخر، بلا نقوش ولا زينة، لكنه يحمل طابعاً خاصاً… في نهايته جدار يبدو كأن عليه نقشاً غريباً، وربما رمزاً غير مألوف. قال أيضاً إن الضوء لم يكن واضح المصدر… كأنّ الجدران نفسها تنبض بهدوء.
سكت السائق للحظة، ثم نظر عبر المرآة، وقال بنبرة متفكّرة:
– ذلك الوصف… مألوف جداً. لقد رأيت أماكن مشابهة بنفسي، داخل كهوف قديمة في منطقة نائية من الجبل كأنكم تصفون الكهوف القديمة الموجودة في جبل المقطم.
رفعت أمي رأسها، وقالت ببساطة:
– قرأت عن الجبل من قبل… يقولون إن فيه إطلالة ساحرة على القاهرة.
جرجس:
– نعم، وهذا صحيح تماماً. الجبل يطلّ على المدينة كلها، والمشهد من أعلاه لا يُنسى. لكن ما لا يعرفه الكثيرون… أن داخله أيضاً لا يُنسى.
نظر إليه أبي باهتمام:
– ماذا تعني؟
جرجس:
– الجبل مليء بالكهوف القديمة. بعض الناس يظنونها طبيعية، وبعضها ربما نُحت قديماً لأغراض لا أحد يعرفها الآن. فيه أماكن لا يدخلها إلا السكان المحليون، وحتّى هم لا يقتربون منها كثيراً. ويقال إنّ بعض تلك الكهوف كانت تُستخدم قبل أن يُطلق عليها أي اسم… كأنها موجودة قبل أن تُكتب قصتها.
ثم أضاف، وكأنّه يستدرك:
– وهناك حكاية قديمة يتداولها الأقباط. تقول إنّ جبل المقطم كان على وشك أن يسقط على المدينة، لكنّه “انتقل” بمعجزةٍ دينية بعد صلاة أحد القديسين.
الشخص الذي يُنسب إليه الحدث يُدعى الأنبا سمعان الخراز.
قصة رمزية طبعاً، لكن كثيرين يعتقدون أن الجبل لم يكن عادياً منذ ذلك اليوم… كأنّه يحمل شيئاً في داخله.
أبي:
– وهل المكان مفتوح للزيارة؟ أعني… هل نستطيع الدخول إليه؟
أجاب السائق:
– لا يوجد مكان رسمي أو منظّم حتى الآن. ولكني سمعت أن بعض القساوسة يخطّطون لبناء دير هناك، ينحتونه في قلب الجبل. مشروع ما زال حديثاً…كلام أنّه سيكون اسمه “دير الأنبا سمعان”. حتى الآن، هي مجرّد شائعات، لكن الناس تتحدّث.
نظر أبي وأمي إلى بعضهما نظرة سريعة… لم تكن نظرة دهشة، بل ريبة.
اقترب منها وهمس بصوتٍ خافت:
– تباً… سوف يخفون أي أثر، كالعادة.
ردّت دون أن تنظر إليه:
– صرحٌ جديد… يجعل الجميع ينسى ما كان قبله.
سألت أمي السائق بحذر:
– وهل المكان آمن؟
أجابها بهدوء:
– هو في منطقة شعبية تُدعى “حي الزبالين”، والمكان غير معتاد على السياح… لكنه ليس خطيراً، خصوصاً وأنني ابن المنطقة، وأعرف كل زاوية فيه. وحتى إن لم نصل إلى داخل الكهوف، هناك أماكن مرتفعة يمكن الجلوس فيها، وقهوة بسيطة تطلّ على القاهرة كلّها.
تبادل أبي وأمي نظرة قصيرة، ثم قال وهو يتنفّس ببطء:
– لنجرب إذاً. لا شيء نخسره إن رأينا المكان.
قال جرجس بابتسامة خفيفة:
– لن تندموا… بعض الأماكن لا تُشهرها الكاميرات، بل الحدس.
انعطفت السيارة، ببطء، إلى طريقٍ لا يشبه الطرق التي على الخريطة.
ثم تدريجياً، كلما ارتفعنا، كأن المدينة تخلّت عن ضجيجها طواعية، وسمحت لنا أن نقترب من شيءٍ لم يكن لها.
جلستُ قرب النافذة، أراقب الأحياء تتبدّل، ثم تتراجع، ثم تختفي…
لم تعد العمارات مرتفعة، ولا السيارات منتظمة.
بدأت تظهر أكوام من الحجارة، وطرقات ترابية، ووجوه لا تلتفت كثيراً.
رأيت صبيةً يحملون أخشاباً مكسّرة فوق عربات حديد، وأطفالاً يلعبون بجوار جدران شبه منهارة.
ثم رأيت شيئاً أدهشني:
جداراً حجرياً نصف متهدم، عليه رسوم باهتة بالكاد تُرى… دوائر، ومربعات، وأشكال هندسية غريبة.
كأن أحدهم كان يكتب شيئاً، ثم تراجع… أو مُنِع من إكماله.
كان الطريق يضيق، والهواء يبرد.
قالت أمي، وهي تنظر من النافذة الأخرى:
– غريب كيف يتغيّر الجوّ كلما صعدنا… كأن الجبل ليس جزءاً من المدينة، بل نقيضها.
أجاب أبي، وكأنّه يستعيد شيئاً قرأه يوماً:
– جبل المقطم، بحسب الجيولوجيين، ليس جبلاً بالمعنى التقليدي، بل هضبة صخرية نشأت من قاع بحر قديم. طبقاته غير متجانسة… بعضها من الحجر الجيري الكثيف، وبعضها من الطفلة الهشّة. هذا التناوب الغريب يجعل الجبل عرضة لتكوّن فراغات داخلية، شقوق لا تُرى بالعين المجردة.
أمي، كمن تمعن في السؤال أكثر مما في الجواب:
– وهل تعتقد أنه يمكن أن يُخفي شيئاً… بالمعنى الحرفي؟
وبينما السيارة تتسلّق طريقاً ترابياً متعرجاً، نظر والدي إلى ساعته، ثم قال باستغراب:
– توقّفت البوصلة… كانت تعمل منذ لحظات.
نظر إليه السائق عبر المرآة، وقال بنبرة هادئة:
– يحدث ذلك أحياناً… في بعض المناطق من الجبل، تتصرّف البوصلة بطريقة غير مفهومة. سمعتُ أيضاً من بعض السائقين أن إشارات الراديو تختفي فجأة ثم تعود بلا سبب واضح، وكأنّ شيئاً في الهواء يعكسها أو يبتلعها. وأذكر أنّ سائحاً أجنبياً قال لي إنه شعر بدوار مفاجئ قرب أحد الممرات، كأنّ ضغطاً خفيّاً أحاط برأسه. وهناك موضع بعينه، فوق إحدى الهضاب… إذا وقفت فيه، لا تسمع أيّ صدى. الصوت يختفي تماماً، كما لو أنّ الجبل يبتلعه.
مالت أمي قليلاً إلى النافذة، ثم قالت بتأنٍّ:
– يبدو أن ما تصفه… يشبه الشذوذ المغناطيسي. لقد قرأتُ عن شيءٍ كهذا في كتاب، وتبدو أعراضه مشابهة تماماً لما ذكرته.
أومأ جرجس بصوتٍ منخفض:
– لا أحد يملك تفسيراً دقيقاً… لكن بعض الأشياء هنا، لا تُفهم بالخرائط.
أبي وهو يحدّق من النافذة الجانبية:
– هل تلاحظون هذه الزاوية؟ هناك… على جانب السفح. إنها حادّة على نحوٍ غريب. لا تشبه التكوينات المعتادة في الصخور الرسوبية.
نظر السائق عبر المرآة، ثم قال وهو يبطئ السيارة قليلاً:
– نعم، موجودة. في أماكن أعمق من الجبل تظهر زوايا مماثلة…
حادّة، ملساء أحياناً، كأنّ أحدهم نحتها عمداً. ليست كثيرة، لكنها تلفت الانتباه. حتى بعض الجيولوجيين الذين جاءوا من الجامعة قالوا إنها لا تُشبه ما يتوقّعونه من جبلٍ تكون في قاع بحر.
أمي بعد صمتٍ قصير، وهي تراقب الطبقات المتراكبة:
– الصخور الرسوبية بطبيعتها ناعمة الحواف… هذه الزوايا لا تُنتجها الطبيعة بسهولة. إما أن تكون ناتجة عن صدوعٍ عميقة جداً… أو أنّ هناك شيئاً آخر… لم يُفهم بعد.
أبي بصوتٍ منخفض، كأنه يحادث نفسه:
– كأنّ تحته شيئاً لا تلتقطه الأقمار الصناعية بسهولة. البعض يظنها مجرد تحوّلات جيولوجية نادرة، والبعض الآخر… يعتقد أنها إشارات لبنية مخفية، لم تُكتشف بعد.
ثم أضاف، وكأنه يتحدّث عن شيء يعرفه أكثر مما يريد أن يقول:
– الصخور القديمة لا تُخفي فقط… بل تختار متى تظهر. هي لا تفصح تحت الضغط، بل تحت الوقت.
كنت أستمع لهم بصمت، لكن داخلي كان يهمس بشيء آخر.
شعورٌ لم أستطع ترجمته… كأن الجبل لا يخبرك بشكله، بل بما يُخفيه عنك، وبما يريد أن يبقيه بعيداً حتى اللحظة المناسبة.
لكنّ تفصيلاً صغيراً ظلّ يطاردني…
إن كان هذا الجبل قد وُلد من قاع بحر قديم، فكيف يمكن لزاويةٍ حادّة، أشبه بحدٍّ هندسيّ، أن تستقرّ في قلبه؟
كأنّ شيئاً ما… وُجد هنا قبل البحر.
ثم جاء البحر، وتكوّن الجبل فوقه…
لعل ذلك الشيء ظلّ في الأعماق، ساكناً، ينتظر أن يراه أحد… أو يفيق.