May 23, 2025June 1, 2025 الفصل السادس: الكلمات التي سبقتنا تراجعنا عن الجدار الحجري الذي توقفنا عنده في الممرّ الأول، لكن لم يكن فينا من شعر أن الرحلة انتهت. كان الصمت أكثر حضوراً من أي كلام، كأن الجبل لم يقل كل ما أراد قوله بعد. فتح جرجس باب السيارة، ثم استدار إلينا بهدوء، وقال بصوتٍ متأنٍ: – هناك مكانٌ آخر… يشبه ما وصفه لك صديقك أكثر. ليس بعيداً عن هنا، لكن لا أحد يقصده عادةً. كأنه لا يريد أن يُزار. لم يعلّق أحد. صعدنا جميعاً، وما إن بدأت السيارة تشقّ طريقها نحو الانحدار، حتى مدّ جرجس يده إلى جهاز الهاتف المثبّت إلى جانب المقود، ورفع السماعة السوداء الثقيلة، ضغط رقماً قصيراً وانتظر. – مساء الخير… هنا السيارة ٨٢٢. نحن الآن متجهون إلى النقطة الشرقية من المقطم، عبر المسار الداخلي رقم ٣…. نعم… الأرض وعرة بعض الشيء، والمنطقة خالية….. فقط أردتُ تسجيل الموق في حال حدوث أي طارئ. أنهى المكالمة، وأعاد السماعة إلى مكانها. يبدو هذا طبيعياً… مجرّد إجراء احترازي لتسجيل الموقع. لكن شيئاً داخلي ارتجف. لم يكن الأمر فقط لتطمين الفندق، بل بدا كـ رسالة غير مباشرة… كأنّه أراد أن يكسب ثقتنا المطلقة، لا ليطمئننا، بل ليهيّئنا. لا لأنّ الطريق خطر… بل لأنّ ما نحن مقبلون عليه ليس طريقاً. بل عتبة. عتبةٌ تفصل بين ما كنّا نعرف، وما لن نعرف بعد الآن. خطوةٌ قادمة لا رجعة منها… لا يكفي أن تعبرها، بل عليك أن تؤمن بها. وكأنّه يقول دون أن يتكلم: “لا تخافوا من الطريق… لا تخافوا مني. هذا هو الوقت الذي يجب أن تُغلقوا فيه كل أبواب الشك. انسَوا أيّ مخاوف جانبية… ما هو قادم، أهمّ من أن يُساق إليه بالخوف. أنتم… في أيدٍ أمينة.” توقّفنا عند فجوةٍ بين صخرتين كبيرتين، لا لافتة تشير، ولا أثر يدل. أشار نحوها، وقال ببساطة: – من هنا. دخل أولاً، منحنياً، بخطى واثقة. تبعناه واحداً تلو الآخر، والصمت يسير معنا. ندَبت الصخور نفسها لتفتح لنا ممراً لا يتّسع إلا لمن خفّت ذنوبه. سقفٌ ينخفض كأنّه يسجد للعبور، وجدران كأنّها تحبس نفسها منذ قرون. هواءٌ بلا صوت… لكنه ليس ساكناً، بل متربّص. وفي نهاية الكهف، انشقّ الجدار عن فتحة مربّعة… لم تُنحَت لتُفتح، بل لتُخفى. وعند تلك الفتحة… لم أدخل إلى سرداب. بل شعرت كأنّ الجبل نفسه تنفّس، وفتح لنا شقّاً في صدره. كلّ ما فيّ اهتزّ حين عبرت العتبة. لا أعرف إن كنت أهبط… أم أتعمّق في شيءٍ كان في داخلي منذ البداية. امتدّت الأرض الحجرية تحت أقدامنا ببرودةٍ مألوفة. الجدران بلا زخارف، لكنها تتوهّج بلونٍ لا لون له. الضوء لا يأتي من مصباح، بل من داخل الجدار نفسه… كأنّ الحجر يتذكّر الضوء الذي نسيه العالم. تقدّمتُ، يدي ترتجف، ثم صحتُ دون أن أشعر: – هذا هو! هذا هو المكان! أقسم أنني رأيت هذا الجدار! وهذه اليد! والضوء… من الحجر! تقدّمت أمي نحوي، لم تتكلم، لم توبّخني. بل فقط… رمقتني بنظرةٍ سريعة، قصيرة، لكنها كانت كافية. رمشةُ عينٍ واحدة، فيها أكثر من ألف كلمة. ثم تذكّرت. جرجس لا يعرف عن الحلم شيئاً. هو يظن أن أبي وصف له هذا المكان كما سمعه من صديق… لا أكثر. أما والدي، فتقدّم نحو نهاية السرداب، حيث الجدار. لم تكن نهايةً، بل بداية. وفي منتصفه… كانت اليد. منحوتة في الحجر، تمسك بهرمٍ مقلوب. كأنها تغرزه في الأرض، أو تنتزعه منها. الفعل كان جارحاً… لا رمزيّاً. أما جرجس، فظلّ واقفاً بصمت. لا يندهش. لا يتراجع. بل بدا كأنه واقفٌ في بيته… أمام شيءٍ يعرفه جيداً. حاول والدي تفحّص النقوش. اقترب من الجدار، رفع مصباحه اليدوي، وراح يُمرّر ضوءه ببطءٍ على السطح الحجري، كمن يقرأ فصلاً طُمست كلماته تحت الغبار. الرسم مألوفاً… كما في الحلم. لكنّه لم يكن مطابقاً تماماً. الآن، أراه بوضوحٍ أكبر. تفاصيل لم تُرَ من قبل بدأت تتّضح. كأنّ الحلم كان مجرّد ظلّ لما هو محفورٌ هنا… وهنا فقط، بدأ الشكل يُفصح عمّا كان يهمس به هناك. في الأعلى، هرم مقلوب، تمسك قمّته يدٌ بشرية منحوتة بدقة. أسفله مباشرة، عين نصف مفتوحة، كأنها لا ترى… بل تتذكّر. إلى جانبها، ثلاثة خطوط عمودية، تنهمر كأشعة، لكنها لا تنير، بل تُظلم ما تمرّ به. ثم جسدٌ بشري مكوّر، أشبه بجنينٍ في وضعية النهوض… لا الموت. وفي الزاوية العليا، قرص شمس يدور بعكس مساره، تتبعُه طيور منقلبة، كأنها تهرب من دورة زمنية خُدعت بها. كلّ هذا بدا كأنه يحكي شيئاً… لا عن الماضي، بل عمّا لم يأتِ بعد. ثم، وتحت هذا المشهد المعقّد، لمح والدي سطراً آخَر محفوراً بلطفٍ على شريطٍ أكثر نعومة من بقية الجدار. خطّ مقلوب… لا يشبه الكتابات التقليدية، لكنه أكثر وضوحاً. كأنّ أحدهم جاء لاحقاً، وأراد أن يُترجم المعنى لمن لا يفهم الصور. همس أبي، وهو يتأمل: – ليست هيروغليفية تقليدية… بعض الرموز تشبه أنظمة قديمة، لكنها مقلوبة… وفجأة، ومن دون سابق إنذار… تكلّم جرجس. لم ينظر إلينا. لم يلتفت. فقط نظر إلى الجدار، وتدفّقت الكلمات منه كأنها كانت تنتظره: “إن لم يُقلب الهرم، فلن يُبعث الإنسان. وإن ظننتم يوماً أنكم بلغتم ذروة الحضارة… فستكونون قد صعدتم إلى قمة ما صنعته أيديكم، لا إلى قمة أنفسكم. وما ستظنونه مستقبلاً… سيكون ماضياً نُسي. وما ستتوهّمونه نهاية… لن يكون إلا بداية لم تُكتب بعد.” تجمّد الزمن. والدي همس، كمن تذكّر فجأةً صوتاً قديماً: – هذه… نفس الكلمات…. قالها العجوز… في محطة رمسيس. ثم استعادها، وهو يمرّر يده في الهواء أمام النقش… كمن يتحسّس أثراً لا يريد أن يُفسده باللمس. كأنّ الكلمات تستعيد نفسها من الحجر، لا من الذاكرة. “نحن نظن أننا نعيش ذروة الحضارة، نقيسُ تقدّمَنا بعددِ الأقمارِ الصناعيةِ وعددِ الطوابقِ في ناطحاتِ السحاب، لكن ماذا لو لم نبلغ قمة الإدراك قط؟ ماذا لو كنّا قد بلغنا ذروة الآلة فقط، بينما وعينا الحقيقي بدأ بالتآكل منذ آلاف السنين؟ قد لا نكون في قمّة الإنسان، بل في قمّة ما اخترعه الإنسان…” ثم أضاف بنبرةٍ مشوبة بدهشة الاكتشاف، كمن رأى المعنى يتكشّف أمامه فجأة: – لم تكن كلماته… لقد كان فقط ينقلها. قالت أمي، بصوتٍ لم أسمعه منها من قبل… صوت خافت، لكنه مشبع باليقين: – نقلها من هنا. تردّدت لحظة، بعينيها تُفكّكان المكان… كأنها لا ترى الجدار، بل الزمن المحفور فيه. ثم أضافت، بصوتٍ أكثر بطئاً… وكأنّها تنطق بالحقيقة لأول مرة: – هذه ليست جملة عابرة، ولا نقشاً تقليدياً… بل نبوءة. نُقشت في قلب الصخر، منذ آلاف السنين. غارت رعشة صامتة في صدري، وأنا أرى جرجس ينظر إلى الجدار… بعينين لا تنظران إليه، بل من خلاله. ثم… تذكّرت تلك الهمسات في الفندق… صوت أمي وهي تهمس في الغرفة المجاورة. جملةٌ واحدة ظلت ترنّ في أذني كصرخةٍ لا تموت: – “والدك قُتل في روما… ولا أحد حتى الآن يجرؤ أن يقول لماذا.” هل… من الممكن؟ هل جدي قُتل لأجل هذا؟ لأجل هذا المكان؟ هل مات لأنّه كان يعرف؟ لأنّه اقترب أكثر مما ينبغي؟ انتابني يقينٌ جارف… أن جرجس لم يكن وحده. وأن هذه الرحلة، منذ اللحظة الأولى، لم تكن مصادفة… بل بدا كل شيء فيها كأنّه مُخطّط له بإحكام. هذه لم تكن رحلة عبثية. وربما لم تبدأ من الفندق إلى الجبل… بل من بيتنا في لندن، إلى كلّ هذه الأرض التي نطأها الآن. الشكّ بدأ يعصف بي… من هو جرجس؟ بل من هو أبي؟ من كان جدّي؟ وللحظة… شعرت كأنني وُلدت لتوّي في عائلةٍ لم أعرفها من قبل. عائلةٌ لم تُظهر وجهها الحقيقي… إلا الآن. رفع والدي رأسه، ونظر نحو جرجس مباشرة، كمن استعاد حديثاً لم يغادره: – كنت قد ذكرتَ في الطريق… مشروع ديرٍ سيُبنى هنا… في هذا الجبل…. هل هذا هو المكان؟ لم يتردد جرجس. بل قالها بثقة، وابتسامةٍ واحدة… ابتسامة أخرجته تماماً من قالب سائق فندقي، إلى هيئة رجلٍ يعرفنا أكثر مما نظن. – ليس بالضبط في هذا المكان… لكن حوله… وحين يُبنى… سيُخفي كل شيء. ثم نظر إلى الجدار، بعينين لا تنظران إليه… بل من خلاله. تقدّم والدي خطوة واحدة نحوه… نظر في عينيه مباشرة، كأنّه يحاول أن يقتلع الحقيقة منه اقتلاعاً. – هل كان هنا؟ هل مرّ العجوز من هذا المكان؟ هل… تعرفه؟ لم يُجب. فقط… ابتسم. تلك الابتسامة لم تكن ودودة. بل كانت… اعترافاً. لم نكن ضائعين أبداً
لم نكن ضائعين أبداً الفصول الكاملة من رواية لم نكن ضائعين أبداً June 1, 2025June 1, 2025 🌀 الهرم المقلوب– لم نكن ضائعين أبداً – رواية لا تبدأ من الصفحة الأولى… بل… Read More
لم نكن ضائعين أبداً الفصل التاسع: عالق بين حضارتين June 1, 2025June 1, 2025 شيء ما ارتجّ في أعماقي.لم يكن ألماً، ولا خوفاً، بل كأنّ عالماً كاملاً انفصل عني… Read More
لم نكن ضائعين أبداً الفصل الثامن: حضارة الحواس المنسيّة May 28, 2025June 1, 2025 بعد أن ساد الصمت، تحرّك العجوز ببطء، ونظر إليّ نظرة طويلة. ثم، دون أن يقول… Read More