May 25, 2025June 1, 2025 الفصل السابع: أوصياء آسيريا لم يكن الجدار هو النهاية. ولا كانت اليد التي تمسك بالهرم المقلوب سوى إشارة أولى لما لم نُدرِك بعد. منذ تلك اللحظة، صار الزمن داخلي مشوَّشاً، كأن الممرّ الذي دخلناه لم يكن تحت الجبل فقط… بل تحت الجلد. جرجس ظل واقفاً أمام الجدار، لا يتكلّم. وشيئاً في ابتسامته… في ثبات نظرته يقول أكثر من ألف كلمة. انهارت نظرات أمي في لحظة، كأن شيئاً ما انكسر في داخلها حين أدركت أن جرجس لم يكن سائقاً غريباً… بل يعرفنا. نظرت إليّ بعينين يتقاطع فيهما الخوف والخذلان، ثم أمسكت بيدي بعنفٍ مفاجئ، لا كأم… بل كمن يُنقذ ما تبقّى من عالمه. ثم قالت بنبرة مرتجفة، تكاد تكون همساً: – اخرجوا من هنا… الآن… بسرعة. سحبتني، وأمسكت بأختي، ثم اندفعت تعود بنا عبر الممرّ ذاته الذي دخلنا منه، تتحسّس خطواتها كمن يهرب من شيء لا يُرى… لكنه يتنفّس خلفه. أختي تتلعثم، تنظر إليّ بعينين ممتلئتين بالفزع، وتسألني دون صوت: ماذا يحدث؟ لكني لم أكن أملك جواباً… فقط ركضت معها. – أمي؟ ماذا هناك؟ – هيا! بسرعة! تمسّكا بي ولا تلتفتا! والدي صاح من خلفنا: – ماذا تفعلين؟! لكنه لحق بنا. ووراءه… كان جرجس. ركضنا عبر الممرّات الضيّقة، والهواء من حولنا صار أثقل، كأن الجبل يضيق خلفنا، ويقفل ممراته ببطء. الظلال بدت أطول مما ينبغي، تتسلّل خلف أقدامنا بصمتٍ متربّص. وحين بلغنا الفتحة الحجرية، واصطدمت وجوهنا بنفحة هواء نقي لم نشعر به منذ دخلنا، توقفنا. ليس لأننا تعبنا… بل لأن شيئاً كان ينتظر عند العتبة، ساكناً بصمتٍ غير عابر، حضورٌ بدا كأنه ظلّ واقفاً منذ اللحظة الأولى… يترصّد. كأنه لم يكن يراقب خطواتنا، بل يترقّب بلهفة نتيجة اختبارٍ خضناه للتو. هناك، أمامنا تماماً، عند فوهة الكهف… وقف رجل. لم يكن غريباً عنّا. بل كان هو العجوز ذاته، ذلك الذي رأيناه في محطة رمسيس، بهيئته نفسها… يحمل العصا الغريبة نفسها، المُزيّنة بالنقوش ذاتها التي كنّا نتأمّلها قبل لحظات داخل الممرات. تجمّدت أمي في مكانها، شدّت على يدي بقوة، ثم دفعتني خلف ظهرها بحركة حاسمة، كأنها كائن تُحرّكه الحواس لا العقل، كأنها أنثى ذئب استيقظت في عروقها حاسة الخطر، وفصلتني عن العالم كما يفعل الجسد مع قلبه حين يستشعر الطعنة. وللحظة، خُيّل إليّ أني سمعت زمجرةً خافتة تنفلت من صدرها، صوتٌ داخلي خرج كنبضةٍ صوتية غريزية… لا صوتاً بشرياً، بل صوت شيء أقدم، أعمق… غريزة لا تُفكّر، بل تسبق التفكير… حاسّة فطرية مدفونة في أعماقها، تنهض من تلقاء نفسها حين تلامسها ظروف معيّنة، كأنها مبرمجة على الاستيقاظ فقط عندما يشتدّ الخطر إلى الحدّ الذي لا تنفع معه الكلمات. – من أنتم؟ ماذا تريدون منا؟ ثم سمعت صوت أنفاس أبي خلفنا، ثقيلة… متوترة، كأن شيئاً في داخله استيقظ هو أيضاً، لا يشبهه في عادته، ولا ينتظر إذنه ليتحرّك. التفتُّ فرأيت جرجس يقف خلفه تماماً، ساكناً كظلّ لا يعكسه الضوء. عندها، مدّ أبي يده إلى حقيبته، وأخرج سكيناً شبه صدئة، صغيرة الحجم، لم تفارقه منذ دخلنا مصر… مثل تلك التي يحملها باحثو الآثار بحكم العادة، لا بحكم الحاجة، وكأنها جزء من الدور الذي قرّر أن يعيشه. ثم استدار بخفّة خاطفة، وأطبق على عنق جرجس، للحظة تهيئ لي أن في داخله نمِراً خائفاً، لا يهاجم ليفترس… بل ليحمي… ليرسم خطاً فاصلاً بينه وبين التهديد. غريزة لا تُفاوض. فقط تُنذر. – إن لم تشرحا ما يحدث الآن… أقسم أنني سأقتلك! ثم التفت إلى أمي، وصوته يحمل حدة لم أسمعها منه من قبل: – اذهبي إلى السيارة، أديري المحرّك فوراً، وخذي الأولاد معك. وإن لم ألحق بكم خلال دقائق… لا تنتظري. ارحلي دون أن تلتفتي. لم يتحرّك العجوز، ثبت مكانه كأن الزمن لا يعنيه، وحدها عيناه تحرّكتا، تحملان نظرة استخفاف باردة، وابتسامة صغيرة لم تكتمل… ثم انسابت من بين شفتيه كلمات كأنها لا تنتمي إلى اللحظة، بل تسبقها بخطوة: – سوف تتسبب بمقتلهم جميعاً… تماماً كما تسبب والدك بمقتله. تجمّد والدي. تلبّدت السماء بلونٍ لا لون له. قال العجوز بصوتٍ فيه نبرة ندبة قديمة، كمن يستدعي شيئاً أثقل من الذاكرة: – ما حدث داخل هذا الكهف… لم يشهد أوصياء آسيريا مثله من قبل، سوى مرة واحدة فقط… حين دخله والدك… وها هو يحدث أمام عيني… للمرة الثانية… ياللعجب. تقدّم أبي خطوة، ولا تزال يده تطبق بقوة على عنق جرجس، كأن الغريزة التي أيقظته لم تسمح له بعد أن يتراجع. نظر إلى العجوز بعينين تضطرب فيهما الريبة والغضب، وقال بصوتٍ متوتر يشقّ الصمت: – ماذا تعني؟ ما الذي يحدث؟ وضّح كلامك! قال كلماته تلك، وكأن الكلمة الأهم فيما قاله العجوز مرّت على سمعه دون أن تترك أثراً… “آسيريا”. لكنني سمعتها بكل وضوح. شعرت بها ترتدّ في رأسي كصدى بعيدٍ أعرفه ولا أتذكّره، كأنها لم تكن اسماً غريباً، بل مألوفاً على نحوٍ مربك، كما لو أنها كانت يوماً جزءاً من ذاكرة لا تخصني… لكنها تسكنني. باغتنا العجوز بسؤال حاد: – من منكم… رأى هذا المكان في ذاكرة لم يعشها؟ تقدّمت أمي خطوة، كمن تحاول أن تُبعدني عن الخطر بجسدها قبل كلماتها، تحميني بالكذب، وتدفع الحقيقة عنّي قبل أن تصل. ثم صرخت بانفعالٍ متوتر: – أنا… أنا من رأته! ضحك العجوز، ضحكة يقين أكثر منها سخرية: – مستحيل… يجب أن يكون أحد أبنائه. وأشار برأسه إلى أبي، كأنما يشمله… ويشملني أنا وأختي معه، دون أمي، كما لو أن هناك شيئاً يسكن في دم عائلة أبي، سرّاً لا ينتقل بالزواج… بل يولد فقط مع من جاء من صلبه. خرجت من فم جرجس بضع كلمات مشروخة، ممزوجة بأنفاسٍ متقطعة، قبل أن يُحكم أبي قبضته أكثر ويضغط الأداة الحادة على جلده. رأيت خيطاً رفيعاً من الدم يسيل من رقبته، ومع ذلك… تفلّتت الكلمات بصعوبة، كأنها تحارب لتُقال: – هو… الولد… قالها… بنفسه… الكهف… “رأيته بالحلم”… ثم اختنق صوته تماماً، وسقط الصمت كأن أحدهم أغلق الباب على ما تبقّى. تقدّمتُ خطوة، وعلى غير المألوف… لم أكن خائفاً تماماً. كأن شيء في داخلي، ساكن وواضح، يهمس لي بأن لا داعي لهذا الفزع… كأنّ جسدي تذكّر أمراً لم يخبرني به بعد. – ماذا تريد منا؟ نظر إليّ العجوز طويلاً: – هذا منطقي. أنت تحمل نفس عيني جدك. ثم التفت إلى أمي: – لا يمكن أن تكوني أنتِ. كونكِ الأم فهذا لا يمنحك جيناتهم… ولا ذكرياتهم. ثم التفت إلى أبي، بصوتٍ أكثر هدوءاً، كأنّه يحاول أن ينزع السمّ من الهواء: – كما ترى… أنا رجل عجوز. ثم أضاف بنبرة فيها شيء من الذكرى: – لكنني… بريطاني مثلك. أو هكذا كنتُ يوماً ما. نظر إلى يدي أبي وهي لا تزال تطبق على عنق جرجس، وتابع: – لا داعي لأن تهدد سلامة ابني أكثر من هذا.، فلو أردنا أذيتكم… لفعلنا ذلك بطريقة مختلفة. رفعت أمي نظرها نحوه ببطء، وكأن شيئاً ما في كلمات العجوز اخترق الصورة التي كانت تظنها ثابتة. نظرت إلى جرجس، ثم إلى العجوز، ثم عادت ببصرها إلى أبي… تجمّدت ملامحها للحظة، كأنها تحاول أن تُعيد ترتيب العالم في رأسها. جرجس؟ … ابنه؟ الدهشة لم تنطق، لكنها ارتسمت في عينيها كصفعة صامتة. أما أبي… فتوقّف. أدار نظره من حوله، كأنّه يرى المكان للمرة الأولى بعيون الفطرة… لا بعين العقل وخوفه من المجهول. لم يكن هناك أحد سوانا. لا كمين، لا سلاح، لا مخرج سهل إن ساءت الأمور. كل ما حوله يهمس بالحقيقة التي لم يكن يريد تصديقها: لو أرادوا إيذاءنا… لفعلوا ذلك منذ لحظة وصولنا إلى هنا. خفض يده ببطء، وأفلت عنق جرجس. كأنّه أفرج عن شيء أكبر من رجل… عن احتمال لم يكن مستعداً لمواجهته. خفّ التوتر فجأة، وتسرّبت إلى الجوّ نبرة غريبة من الهدوء… فالجميع أدرك، ولو بصمت، أن هذه المواجهة لم تكن ساحة قتال. نظر إليه أبي مباشرة، وكأن صبره قد نفد: – كفى غموضاً… قل كل شيء، دفعة واحدة. رفع العجوز عينيه نحوه ببطء، وفي نظرته بريق إعجاب خفي، ثم قال بنبرة شبه مُبتسمة: – تماماً كطبع والدك… كان يواجه الحقيقة كما هي، لا يحبّ أن تُروى على جرعات، يطلبها دفعة واحدة، كأنها جدار يُهدم بضربة، لا كأنها شبكة معقدة من الخيوط… تحتاج الوقت، والكثير من الصبر. تنفّس العجوز ببطء، وبدأ يشرح باسترسال… دون توقف: – هذا المكان… وجده آخرون غير أبيك. علماء، مستكشفون، وباحثون مرّوا به كما يُمرّ على صدفةٍ في الرمل. لكن أباك… كان الوحيد الذي تعمّق فيه كما لم يفعل أحد. تفاعل مع المكان بطريقة لم أرَ مثلها في حياتي. لم يكن يستكشفه… بل كان يسترجعه. ثم التفت إليّ، وقد خفّ التوتر في صوته:– تماماً كما فعلتَ أنت. صمت لحظة قصيرة، كأنّه يمنح للكلمات أن تستقر، ثم قال بنبرة حاسمة:– ولهذا السبب… فإنهم لن يتركوكم، مهما حدث. ارتفع رأس أبي فجأة… كأنه للمرة الأولى ينتبه للكلمة التي نطقها العجوز من قبل… “أوصياء آسيريا.” نظر إليه، وسأله بصوتٍ أكثر تماسكاً، لكنه يحمل قلقاً دفيناً: – من هم؟ من تقصد؟ أجابه العجوز بنبرة لا مجال فيها للغموض: – أوصياء آسيريا… جماعة سرية لا تعرف وجوهاً، ولا تعترف بالأسماء، موجودون منذ قرون، وربما أكثر. مهمّتهم الوحيدة: حماية أسرار الحضارة القديمة، حضارة آسيريا. قالها العجوز بهدوء، وعيناه لا تزالان ثابتتين في مكانٍ بيننا، كأنّه يرى شيئاً لا نراه: – لكنهم لا يعرفون ما يحمونه. لا يفهمونه. يرثونه فقط… كما يرث الطفل قفلاً بلا مفتاح. ثم أضاف، وصوته ينخفض كمن يقول حقيقة لا يحبّ أن يصدقها: – تحرّكهم الإشارات، لا الفهم. يحرسون المواقع التي وُصِفَت لهم، غير آبهين بفهم ما يحرسونه. نظر إلى الجدار خلفنا للحظة، كأن الكلمات لا تخرج من فمه… بل من الحجر نفسه: – وكلما اقترب أحد أكثر مما ينبغي… أُزيل. عاد بنظره إلى أبي، وقال بنبرة فيها أثر من الذكرى الثقيلة: – والدك؟ لم يكن أول من اقترب… لكنّه كان الوحيد الذي تفاعل مع المكان حقاً… لم يدرس الجدار فقط، بل شعر به… صمت لبرهة، كأنّه يسترجع مشهداً لم يفارقه، ثم أضاف: – كان يتحسّس النقوش كأن جلده يتذكّرها، وكان يرى… لا بعينيه، بل بشيءٍ آخر يسكن داخله. ثم رمقني بنظرة حادّة، كأنّه يتحدث عن جدّي… ويقصدني: – كلّما اقترب من المكان، أو تفاعل معه بجسده أكثر، تفجّرت فيه حواسٌ لم تكن كباقي البشر… أكثر دقّة، أكثر صفاء… كان يسمع الهامس في الصخر… ويصمت، لأنه يفهم. ثم أضاف، ونظره ما يزال موجّهاً إليّ، كأنّه يرى داخلي شيئاً لا أراه: – تماماً كما حدث معك… حين رأيت النقوش على العصا لأول مرة في محطة رمسيس… ربما لم تنتبه لها حينها، لكن ذاكرتك التي لم تعشها… التقطتها قبل أن تفهمها… فبعض الحواس لا تُستَحضَر… بل تستيقظ وحدها، حين يهمس لها ما يُشبهها. ثم نظر إلى الأفق البعيد، وأضاف بصوتٍ منخفض، كمن ينطق بالخاتمة: – وعندما أدركوا أن المكان قد ردّ عليه… قرروا أن يتخلّصوا منه. كعادة البشر حين يعجزون عن الفهم، يخشَون ما لا يُفسَّر، ويعَادون كلّ ما لا يُشبههم… فكان الخوف أسرع من الحكمة، وكان القرار إقصاء النور قبل أن يفضح الظلام. تنفّس ببطء، ثم قال بنبرة ثقيلة: – لم يقتلوه هنا… بل استدرجوه إلى روما… لم يكونوا ليرتكبوا حماقة قتل باحث بريطاني على أرض مصرية ويثيروا الشكوك… إنهم أذكى من ذلك بكثير… جماعة ورثت خبرة قرون، تتحرّك بهدوء، ولا تترك خلفها سوى الصمت. ثم أضاف، وصوته يزداد عمقاً وثقلاً: – لم ينتهِ الأمر بموت جدّك… بل بدأ بعده… أشياء غريبة بدأت تحدث في مواقع مختلفة، كأنّ نبوءة قديمة استيقظت.. حينها قرّرت أن أحضركم إلى هنا… لا لأكشف لكم شيئاً، بل لأحميكم… ولأساعدكم… على أن تحموا أنفسكم. توقّف العجوز عن الكلام، وساد صمتٌ كثيف… لكنّه لم يكن صمت النهاية، بل صمت ما قبل الانكشاف. أما أنا، ففي داخلي لم يكن الخوف هو السائد، بل شعورٌ غريب، كأن شيئاً ما استيقظ في دمي، لا أعرفه… لكنه يعرفني. ولأول مرة، شعرت أنني لست هنا لأفهم… بل لأتذكّر ما لم أعشه قط. شيء ما في داخلي بدأ يتحرّك… حاسّة لم أتعلمها، لكنني وُلدت بها. وكنت أعرف، رغم أنني لا أملك تفسيراً لذلك! أن لا شيء سينقذنا اليوم… إلا ذكرياتي التي لم أعشها قط. لم نكن ضائعين أبداً
لم نكن ضائعين أبداً الفصل الثاني: كان يبحث عن شيء لا تحويه المقابر… أقدم من الملوك وأخفى من آثارهم May 13, 2025June 1, 2025 لم يكن بيننا وبين الأهرامات سوى سيارة أجرة.رحلة قصيرة… يمكن أن تنتهي في نصف ساعة.لكنّ… Read More
لم نكن ضائعين أبداً الفصل السادس: الكلمات التي سبقتنا May 23, 2025June 1, 2025 تراجعنا عن الجدار الحجري الذي توقفنا عنده في الممرّ الأول، لكن لم يكن فينا من… Read More
لم نكن ضائعين أبداً الفصل الثالث: الهرم المقلوب May 14, 2025June 1, 2025 “نحن نظن أننا نعيش ذروة الحضارة،نقيسُ تقدّمَنا بعددِ الأقمارِ الصناعيةِ وعددِ الطوابقِ في ناطحاتِ السحاب،لكن… Read More