May 28, 2025June 1, 2025 الفصل الثامن: حضارة الحواس المنسيّة بعد أن ساد الصمت، تحرّك العجوز ببطء، ونظر إليّ نظرة طويلة. ثم، دون أن يقول شيئاً، مدّ عصاه نحوي… كأنّه لا يزال ينتظر تأكيداً على شيء يظنّه، أو لعلّه يريد أن يرى إن كنتُ قادراً على فعل ما يعرف في داخله أنني قادر على فعله. مزيّنة بالنقوش ذاتها التي رأيتها في الكهف… لكنها في هذه اللحظة، بدت وكأنها تتحرّك تحت جلدي. تردّدت لحظة، ثم مددت يدي. ما إن لامستُ النقوش حتى انزاح شيءٌ داخليٌّ من مكانه. لم يكن شعوراً ولا فكرة، بل رعشة عميقة انطلقت من ظهري، كأن شيئاً عتيقاً في داخلي نهض دفعةً واحدة. دوار خفيف اجتاحني. شيء ما في توازني اختلّ فجأة، كأن الأرض تحرّكت دون أن تتحرك. رأسي مال قليلاً، لا إلى الخلف، ولا إلى الأمام، بل إلى الداخل. وشيء ما في عينيّ بدأ ينسحب من الصورة الظاهرة، كأنهما تبحثان عن شيءٍ آخر… خلف الضوء. أغمضت جفنيّ. أو ربما أُغلِقا من تلقاء نفسي، كأن شيئاً ما في داخلي قرر أن يعزلني عن العالم الخارجي ليستكمل ما بدأه. ثم… انفتح داخلي على مشهد لم أعرفه من قبل، وكأنني خرجت من ذاتي دون أن أغادر جسدي. قدماي تتحركان فوق أرضٍ ناعمة، لا تُشبه تراب الكهف، ولا بلاط المدن. الأرض هنا ليست صلبة، لكنها ليست رخوة أيضاً. كأنها تنبض بهدوء. كل خطوة تُثير تحتها صوتاً لا يُسمع، لكنه يُحسّ في الجلد… لا كاهتزاز، بل كوشمٍ خفيف تُنقَش به الطريق دون صوت. الهواء أثقل، لكنه أنقى. لا روائح تُعرف، لكن الأنف يمتلئ بإحساسٍ لا تفسير له… مزيج من حضورٍ خام، لا رائحة له، لكنه يأخذ شكلاً في الصدر. أدور بعيني، لكن بصري ليس كما كان. الأشياء لا تبدأ من حدودها. بل أراها من وسطها، من داخلها. لا أدري إن كنت أراها فعلاً، أم أتذكّرها وأنا أحدّق فيها. مرّت طفلة أمامي، بخطى هادئة. توقّفت عند جذع شجرة غير مألوفة، وضعت كفها عليه، ثم أغمضت عينيها لثوانٍ، وفتحتها ببطء. لم تتكلم، لكن جملةً تسللت إلى داخلي: “إنها نائمة… والجذور تحلم.” لم أنظر حولي بحثاً عن مصدر الصوت. لم أحتج لذلك. فالجملة لم تُسمَع… بل حدثت في داخلي. ثم تحركتُ. رأيت رجلاً يجلس داخل ما يشبه خلايا منحنية الشكل، يبنيها بهدوء غريب… يداه تتحرّكان بثقة كأنهما تنفّذان أمراً أقدم من عقله. لم تكن أحجاراً، بل مواد خفيفة الملمس، لا أعرفها… ومع ذلك، كنت أفهمها. شعرتُ كأنني أعرف وظيفة كل قطعة، وكأنني أراقب شيئاً رأيته من قبل في حلم، أو في مكان لا أذكره. لم أفهم كيف يحدث ذلك، لكنّي كنت أعرف… دون تفسير. المجسمات تتكرر في نمطٍ لا يختل، والفراغات بينها محسوبة، كأنها وُجدت لا لتُملأ، بل لتتنفّس. يعمل بصمت، لا يلتفت، كأن حواسه تعرف المكان قبله. لا يقيس، لا يخطط، فقط يمد يده… وتعرف القطعة من تلقاء نفسها أين تذهب. وفي ساحة منبسطة قريبة، رأيت مجموعة من الناس يتحركون معاً في انسجام مدهش، كما لو أن كل واحدٍ منهم يعرف ما سيفعله الآخر قبل أن يفعله. لم يتبادلوا كلمة، ولا إشارة. يحملون أدوات غريبة، يضعونها في أماكن دقيقة، ثم يبتعدون، ليمرّ آخرون يكملون البناء دون أن يتوقف الإيقاع لحظة. في مشهد يشبه رقصة صامتة… لا قائد فيها، ولا بداية معروفة. فقط حركةٌ تُبنى على إحساس جماعيّ، كأن أجسادهم موصولة بنظام واحد، يُوجّههم دون أن يُظهر نفسه. ثم رأيت رجلاً لا ينظر إلى حيث يذهب، يسير بخطًى مستقيمة لا تُخطئ. عيناه مغمضتان، أو كأنهما غائبتان تماماً عن وظيفتهما، لكنه يغيّر اتجاهه فجأة، كما لو أنّه يشعر بطريقه دون أن يراه، يستجيب لنداءٍ لا يُسمع، ولا يُرى، بل ينبض في داخله. على يميني، تجلس امرأة ساكنة، عيناها مفتوحتان على اتساعهما، لكنها لا تنظر إلى شيء. الضوء من حولها يتذبذب كأنه يتشكّل. أشكاله تتلوّن وتخبو كأنها تخاطبها بلغة لا عين لي على فهمها. طفل يجلس على صخرة، لا يتحرك، لكنه يعلم تماماً من يقترب. لا يلتفت، لا يتنفس بقلق، فقط تزداد شدة جلوسه حين يقترب جسد آخر من محيطه… وكأنه يدرك حرارة النوايا قبل أن تنبعث. أخرى تقف قرب بحيرة صغيرة، تغلق أذنيها بكفيها، وتبدأ بالاستماع. ليست للماء، بل لاهتزازات الهواء فوق سطحه. كأنها تسمع الترددات التي لم تصدر بعد… والأصوات التي لم يحن أوانها. حاولت أن أقترب من أحدهم، لكن شيئاً في جسدي تراجع قبل أن أخطو… كأن القرار لم يكن لي. شيء في داخلي قال: لا تفسد الحاسّة بالصوت. وقفت في مكاني. للمرة الأولى، أدركت أن الصمت ليس غياباً للكلام… بل لغة أعمق، تُقال حين تعجز الأصوات عن حمل الحقيقة، أو عن تفسير العالم من حولنا. مشيت أكثر. كلّ من أمرّ بهم يشبهون الناس… لكنهم ليسوا مثلنا. لا أحد يهمس، لا أحد يشير، لا أحد يركض أو يصرخ أو يشرح. ومع ذلك، كل شيء مفهوم. كأنَّ هناك نغمة خفيّة، تهمس من داخل كل جسد إلى جسدٍ آخر، لا تُنطَق ولا تُرى… بل تُستشعر. ثم تسرّبت إليّ قناعة لا أعرف من أين جاءت… لا كفكرة خطرت، بل كذكرى عميقة نهضت فجأة من تحت وعيي. شعرتُ، دون أن يخبرني أحد، أنني بينهم لست غريباً… وكأنني لم أدخل هذا العالم، بل عدت إليه. وكأنني أفهم قوانينه لا لأني تعلّمتها، بل لأنني أستذكرها شيئاً فشيئاً، كما يتذكّر الجسد رقصة كان يؤديها قبل أن تُنسى. هنا، لا يُقاس الإنسان بما يملك، ولا بما يُجيد. لا بالمال، ولا بالمهارة، ولا حتى بالمعرفة… بل بما استيقظ فيه مما لا يُدرَّس ولا يُلقَّن. المرتبة هنا لا تُمنح كشرف، ولا تُعلن كمنصب، ولا تُنال بالاجتهاد أو الإرث… إنها اهتزاز داخلي، لا يُرى ولا يُقاس، يأتيك حين تنضج حاسّة فيك، نداء لا يسمعه أحد سواك، ولا يُصدّقه إلا من تذوّقه من الداخل. حين تستيقظ حاسّة فيك، لا يتغيّر مكانك… بل أنت الذي يتغيّر داخله. كأنك تتحرّك لا على الأرض، بل عبر طبقات غير مرئية من الإدراك. كأن الضوء لا يخرج من عينك ليفهم العالم، بل يدخل منها ليكشفك لنفسك. وكل حاسّة تستيقظ، تفتح باباً جديداً للحقيقة… ليس لتراها، بل لتعيد تشكيل موقعك فيها. بعضهم يتوقّف عند حواس محددة لا تتجاوز المألوف. آخرون يصلون إلى حالات إدراك أعمق لا تُفسَّر بسهولة. وهناك من تتجاوز حواسه حدود التسمية… فتكفّ الحواس عن التقاطه، لا لأنه اختفى، بل لأنه لم يعد يُدرَك بالطرق التي نعرفها. لا يغيب، بل يتحوّل إلى حضورٍ لا يُمسك، كأن الجسد كان مجرّد مرحلة… وحين استيقظت فيه كل الحواس، تجاوز الحاجة إليه ليكون. رأيت من بينهم طفلاً يقف وحده، ساكناً، كأنّه في انتظار نبضٍ لم يأتِ بعد. حين مدّ يده إلى الفراغ، تغير شيءٌ في الهواء حوله. ثم خفّ الوهج، وتسرّب إلى جلده ضوءٌ خافت، كأنه يتذكّره. شعرت أنني أعرفه… بل أعرف ذلك الشعور الذي انتابه. كأنني كنته، أو كنتُ سأكونه، أو أنه الحاسة التي ما زلتُ أبحث عنها في داخلي. تقدّمت خطوةً، ومددتُ يدي إلى صخرةٍ منخفضة بجانبي. بدا سطحها بارداً في البداية، لكنّي شعرت بنبضٍ يتردّد منها نحوي، كما لو أنها تناديني. ولأول مرة، شعرت أن وظيفة عينيّ لم تكن الرؤية… بل التذكّر. كأنهما لا تنظران إلى العالم، بل تنبشان الذاكرة فيه. هنا، حيث لا وقت، ولا لغة، ولا تعريفات… فقط حواس تستفيق. هذا ليس زمناً آخر. بل الذاكرة التي سبقت الزمن. وبينما طال بقائي هنا، بدأ شيءٌ داخلي يهدأ. لم أعد خائفاً، ولا مذهولاً. فقط أشعر أن كل دقيقة تقضى، تفتح داخلي نافذة. لم يكن أحد يشرح لي شيئاً، لكنّي كنت أفهم. وكأن المعرفة لا تُنقل، ولا تُعلَّم، ولا تُلقَّن، بل تُستحضَر من مكانٍ دفين في الوعي. بدأت أدرك أن ما أراه ليس سحراً، ولا خيالاً، بل نظام إدراك مختلف… عالم بُني على حواس لا نملك لها أسماء، لكنها هنا تُشكّل اللغة والمعرفة والسلوك. ذلك الرجل الذي يبني المجسمات لم يكن يصمّم… بل يتذكّر. حركاته أشبه برقصة وراثية، كأن خلاياه تعرف مكان كل قطعة، كما تفعل النحلات حين تبني خلاياها دون مخططات، بل بإيقاع داخلي لا يُخطئ. والمجموعة التي تتحرك بتناغم خارق؟ لم تكن تُنسّق أدوارها، بل تتصرّف كما تفعل النملة حين تكون جزءاً من وعيٍ واحد، ينبض في الجميع دون كلمة. والرجل الذي لا يرى طريقه لكنه لا يضلّ؟ كأنه يحمل خريطة لا مرئية، كما تفعل الطيور المهاجرة حين تعرف وجهتها دون أن تراها. الطفلة التي لمست الشجرة لم تكن تتخيّل، بل كانت تترجم صوت الجذور، كما تفعل الفيلة حين تُصغي للأرض بأقدامها، وتلتقط النداء المخفي في أعماق التربة… ذلك الذي لا يُنطَق، ولا يُسمَع، بل يُستشعر كحقيقة تُقال بلغة لا صوت لها. والمرأة التي تراقب الضوء، كانت ترى التردّدات التي تختبئ خلف الطيف، كما تفعل الحشرات حين تتواصل بلا صوت. وتلك التي أغلقت أذنيها؟ لم تكن تهرب من الضجيج… بل تستمع لما لم يصل بعد. لذبذبات الزمن. كما تفعل بعض الكائنات البحرية، حين تلتقط تغير الضغط في الماء قبل أن يصل الزلزال، وتغادر المكان قبل أن تُولد الكارثة… لا بالحدس، بل بحاسّة لم نعد نملكها. لم أكن أفهم هذا، بل كنت أتذكّره. وكأنني كنت أملك تلك الحواس… ثم فقدتها. وتساءلت: كيف كان سيكون الإنسان… لو لم ينسَ؟ لو كان يشعر بمن أمامه دون أن يتكلم؟ لو قرأ الصدق في نبضات الآخر قبل أن يسمع كلماته؟ كيف كانت ستبدو الحياة… لو لم يكن بيننا لغة؟ بل صدى. وفي تلك اللحظة، شيء ما في الأفق تحرّك… لا صوت، لا ظلّ، فقط شعور يتكثّف كأنه يُمسك بي من الداخل. استدارت رأسي ببطء، لا لأني أردت، بل لأن شيئاً أقوى من إرادتي همس لي بأن أنظر. الهواء تبدّل، كأن صمت العالم تنفّس نغمة جديدة… لم تُسمع، لكنّي شعرت بها تهتزّ في صدري. وهناك، بين الأشجار المتباعدة، وقف فتى. ساكن الجسد، حيّ النظرة. وجهه لا يوحي بالعمر، كأن الزمن مرّ عليه دون أن يترك فيه علامة. لم يتكلّم، ولم يبتسم. لكنه نظر إليّ كما لو أنّه يعرفني منذ قبل أن أُولد. تلك النظرة؟ ليست فضولاً، ولا شكاً، بل شيء يشبه التعرّف… كأنّه لمح أخيراً مَن يُكمل الصدى الذي ظلّ ناقصاً في داخله… كما لو أن حضوره لم يكتمل إلا بلقائي. أدركت، دون أن يقول شيئاً، أن اسمه “أوريان”. ليس اسمه منطوقاً، ولا محفوراً، لكنه ارتجف في داخلي كما تهتزّ الذكرى القديمة حين تستيقظ. نظراته لم تحمل سؤالاً ولا جواباً، بل تشبه مرآة ترى فيها ما لا تعرف أنك تخبئه. شعرت للحظة أن كل ما رأيته في هذا العالم لم يكن سوى موجات تمهّد لوصوله… كأن كل حاسّة استيقظت فيّ، كانت تهيّئني لأراه، وكأن اللقاء به… لم يكن حدثاً، بل غاية كل ما سبقه. لم يتقدّم، ولم أتحرّك. لكن المسافة بيننا تقلّصت كأنها لم تكن. وفي داخلي، صوتٌ لا يُشبه الصوت، قال: ها أنت… وصلت. ولأول مرة، شعرت أنني لم أعد زائراً لهذا العالم… بل ذوبتني الحواس فيه حتى لم أعد أفصله عن نفسي. كأنني لم أدخله… بل انضممت إلى وعيه. ولم أُولد فيه من جديد، بل تذكّرت أنني كنت دوماً جزءاً منه. لم نكن ضائعين أبداً
لم نكن ضائعين أبداً الفصل الرابع: تحت الجبل شيءٌ يتنفّس May 22, 2025June 1, 2025 “ستُبعث الرؤية حين يُقلب الهرم…والعين التي لم تولد بعد، سترى ما نُسي قبل أن يُكتب.”… Read More
لم نكن ضائعين أبداً الفصل الخامس: الضلع الذي لا يصعد May 22, 2025June 1, 2025 ابتعدت السيارة شيئاً فشيئاً عن الطريق الرئيسي، وتوغلت بنا في ممر ترابي ضيّق، لا وجود… Read More
لم نكن ضائعين أبداً الفصل الثاني: كان يبحث عن شيء لا تحويه المقابر… أقدم من الملوك وأخفى من آثارهم May 13, 2025June 1, 2025 لم يكن بيننا وبين الأهرامات سوى سيارة أجرة.رحلة قصيرة… يمكن أن تنتهي في نصف ساعة.لكنّ… Read More