June 1, 2025June 1, 2025 الفصل التاسع: عالق بين حضارتين شيء ما ارتجّ في أعماقي.لم يكن ألماً، ولا خوفاً، بل كأنّ عالماً كاملاً انفصل عني فجأة.ذاك المكان الذي كنت فيه… لا يشبه ما حولي الآن. موجة خفية، لا صوت لها، لا لون… لكنها جرّتني من أعماقي كما تُسحب الروح من جسد لا يريد الرحيل.ذبذبة خافتة بدأت في أطراف الجلد، ثم صعدت ببطءٍ مدروس كمن يوقظ ميتاً بحذر، واخترقت عمودي الفقري، حتى وصلت رأسي… ثم اختفت. ما عشته لم يكن رؤيا. ولم يكن وهماً.كنتُ في عالم آخر. في زمن لا يعترف بالساعات.والآن… شيء ما طردني منه.أو ربما… شيء ما أطلقني. فتحت عيني.لا زلت واقفاً حيث كنت، كأن جسدي عاد قبلي بخطوة، وروحي ما زالت تتأرجح بين العوالم…رغم أن نظراتهم توحي بأنني لم أغب إلا لحظات…إلا أن ما في داخلي يصرخ بعكس ذلك.والدي يحدّق بي بقلق واضح، ليس لأنه شعر بغيابي، بل لأن ملامحي تغيّرت فجأة، وكأن دواراً اجتاحني، أو أنني كنت على وشك السقوط. هو رأى ثانيةً واحدة تمر… وأنا؟ رأيتُ دهراً.دهراً لم يُقَس بالوقت… بل بما تحوّل داخلي. وها أنا… لم أغب عنهم سوى لحظة، رمشة عين لا تُذكر، لكنني غريب بينهم.لستُ أنا كما ذهبت… أشياء كثيرة تغيّرت في داخلي.أشعر بغربة لا تشبه الفقد، بل كأنني نُفيت من عالمي،وعُدت إلى مكانٍ لا يعترف بي تماماً، ولم أعد أنتمي إليه. أنفاسي ثقيلة، والعالم من حولي يتلوّن كأنّه يحاول تذكّر من أنا… أو كأنني أنا من يحاول أن يتذكّره.كم هو غريب… أن تصبح غريباً في عالمك بين رمشة عين وطرفتها،كأن الزمن انحرف لحظة… لحظة خاطفة كفيلة بتغيير كل شيء. السماء مغبّشة، رمادية، كأنها فُقدت من الذاكرة.تراب ناعم يطفو في الهواء، يتسرّب إلى الأنفاس كأسرار لا تملك باباً.وفي ذلك السكون…انتبهت. سمعت وقع أقدام.خطوات ثقيلة، مختنقة، تتحرّك بين الحصى والتراب كما يتحرّك الخوف في العتمة.لم تلتقطها أذناي… بل شيء أعمق.إحساس ارتجاجي اجتاحني، كأنني صغير فيل يتلمّس أولى خطواته في عالم لا يُرى بالعين. اهتزاز خفي… ينبض ويناديني دون صوت.كأنني أُعيد اكتشاف الحواس من جديد… تلك التي لم تعد كما عرفتها تماماً.إنها حواس لم أظن يوماً أنها موجودة في بني الإنسان.شيء يتجاوز السمع والبصر، كأن الوعي نفسه بدأ يُصغي. عرفت أنه يقترب، يتسلل، يزحف كنيّةٍ مميتة… رغم أن أحداً لم يره بعد.عندها فقط أدركت الحقيقة:ما كنتُ فيه لم يكن حلماً… بل يقظة من نوع آخر.إدراكي عاد من آسيريا، لكن شيئاً منها جاء معي… أو ربما استيقظ بي في الطريق بين العالمين. لم يُمهلني الوقت لأصرخ، ولا حتى لأُشير.خرج من العدم… لا صوت، لا نفس،فقط ظلٌ امتد فجأة فوق التراب، كأن الهواء نفسه تجمّد لحظة مروره. من خلف صخرة شاهقة فوق التبّة، انحدر كقطعة ليلٍ انفصلت عن الجبل.يتقدّم دون استعجال، لكن كل شيء فيه يوحي بالموت.وحين لمحته عيني، كان قد بلغ العجوز.وقف خلفه، صامتاً… كأنّه كان هناك طوال الوقت، ينتظر لحظة الظهور. طويل، كتفاه عريضتان، ساعده مكشوف، وعليه وسم مألوف…الهرم المقلوب داخل دائرة مشروخة.وجهه مائل قليلاً إلى الظل،لكن الندبة التي تقطع حاجبه تكشف قسوة عتيقة، كأنها رسالة كتبتها معركة قديمة.عينيه جامدتان، ويده تمسك بسلاح صغير، أسود مطفأ، مُجهّز بكاتم صوت لا يكاد يُرى…لا تهديد في حركته، بل حتمية التنفيذ. يتمتم بكلماتٍ لا تُشبه ما نعرفه من لغات… كأنها من قاع مقبرة منسيّة.كل لفظة تنسلّ من فمه مشبعة بإيقاعٍ مريب، موزون كترتيل طقسي محظور. ليست صلاة… بل تعويذة تُردّد في الظلام، حين لا يكون هناك شاهد ولا غفران.فيها ما يُوقظ، وفيها ما يُميت…وكأن فمه بوابة تُغلق خلفها الحقيقة، وتُفتح أمامها النهاية. “قاتل محترف.”همسها جرجس، بعد أن انقبض وجهه وشحب لونه. اقترب من والدي، وهمس بصوتٍ مرتجف لا يخلو من الذعر:“يبدو أنهم كانوا يراقبوننا. هذا واحد منهم… من أوصياء آسيريا. والآن جاء ليُنهي كل ما خرج من هذا الجبل.” اتسعت عينا أمي.دون تردد، ضمّت أختي الصغيرة بذراعيها، ثم مدّت يدها وسحبتني نحوها، ببطءٍ وهدوءٍ مخيف، كما تسحب روحاً من حافة هاوية. كنت أترنّح… رأسي يدور، والهواء من حولي يضغط على جبهتي كأن شيئاً ثقيلاً يسكنها.لم أعد أشعر بقدميّ، وكل شيء بدا خفيفاً… ومُربكاً.لم أستوعب أنني ما زلت واقفاً إلا حين لامستني ذراعاها.عندها فقط شعرت أنني ما زلت هنا… بالكاد. شيء انكمش في صدري، كأن الهواء نفسه لم يعد يتّسع لي.ثم بدأ كل شيء يتحرّك بداخلي… أصوات لم تكن أصواتاً، بل نبضات، اهتزازات خفيّة تنبع من عمق الأرض، تصعد عبر عظامي كرسائل لا تحمل كلمات.لم أعد أسمع الخطوات، بل أسبقها. كأن الحركة تُولد داخلي قبل أن تبدأ خارجاً.تلك حاسة لا أعرف لها اسماً…لكنها تجعلني أسمع ما لم يُنطق، وأفهم ما لم يُقَل.حتى إنني شممت شيئاً حادّاً في الهواء… رائحة دماءٍ خفيفة، لم يلتفت إليها أحد، لكنها كانت هناك، تسري من حولي كإنذار صامت، كأنها تُعلن اقتراب ما لا مفرّ منه. العجوز لم يتحرّك من مكانه.بقي واقفاً، ظهره للرجل، وعيناه معلّقتان بي… لا بالسماء، ولا بالأرض.لم يلتفت. لم يكن بحاجة لذلك.أدرك تماماً من يقف خلفه، كما لو أن وجوده هناك لم يكن مفاجأة… بل نبوءة تأخرت لحظتها. “كفى تمتمة يا بني…” صوته خرج هادئاً، لكن خلفه جدار من غضبٍ مكبوت.“أنت لا تحرس الحضارة… بل تحرس الصمت. هذا الإرث لا يحتاج حراساً… بل شهوداً.” لم يأتِه رد.الصمت تمدّد كأنّ الهواء نفسه يرفض التدخّل.رأيت عروق عنق الرجل تنتفخ ببطء، والنبض يتسارع تحت جلده كطبلٍ خفيٍّ يوشك أن ينفجر… وذراعه بدأت ترتجف، كأنها تقاوم أمراً لا مفرّ منه. تابع العجوز، وصوته يشقّ السكون كمن يقذف بالحقيقة كأنها حملٌ دفين لم يعد يحتمل التأجيل:“النظام الذي صنعك… جعلك جداراً بشرياً يمنع الحقيقة من المرور.حوّلك إلى أداة قتل… مغلّفة بشعارات مقدّسة، مبرمجة على الطاعة دون سؤال، كأنّك طُعنت بروحك تحت اسم النقاء.وما تحميه… ليس آسيريا، بل نظامهم. “ أغمض العجوز عينيه، وتنهد ببطءٍ ثقيل، كمن يودّع شيئاً لا يُقال… ثم أضاف بصوتٍ أكثر عمقاً:“إن عرف العالم من كانت آسيريا… سيسقط النظام.حضارة الدم والخراب التي بُنيت على أنقاض الحقيقة ستتهاوى.هذا النظام الذي يُغذّي الحروب باسم السلام، ويُخفي الأسرار باسم القداسة، سيتصدّع.وما يحرسه هؤلاء… ليس آسيريا، بل مصالحهم التي تُبقي الإنسان مقيداً في عالم لا يخدمه، بل يستنزفه.” تنهد تنهيدة عميقة، ثم التفت نحوه ببطء، وخطا خطوة واحدة إلى الأمام.نظراته كأنها تخترق جدار الزمن، بينما الآخر يزداد توتراً، شدّ على فكه، وانقبضت عضلات وجهه كأنّ النار اشتعلت فيه فجأة. تابع العجوز، وصوته اشتد كأنّه يقذف بالحقيقة الأخيرة… للمرة الأخيرة:“نحن الآن أمام لحظة واحدة،هذا الصبي… بيننا، يملك القدرة على تفجير الذاكرة، لا داخل رأسه فقط… بل في قلوب الجميع.إرثنا ما زال حياً… ونحن نملك الفرصة.” فجأة… انفجر الرجل.وخرج صوت من داخله كأن صدعاً انفتح في صدره،لا هو صرخة، ولا هو أمر…بل عاصفة هائجة من غضبٍ قديم لم يُروَ.أنت خائن! أتيت لتكشف السر… لتُعيد إلى النور ما صُمّم ليُدفن في الظلام. خنت العهد، وأنت تعرف تماماً ثمن الخيانة! يده ارتفعت… المسدس وُجّه…وقبل أن تنطلق الرصاصة، شعرت بها. لم أرَها بعيني، فالعجوز يدير ظهره لي،لكن شيئاً داخلي ارتجف كأنّه التقط صدى دمعة سقطت قبل أن تسقط.لحظة لا تُرى… بل تخترق الستار، وتخبرك أن شيئاً انكسر بصمت. سمعت صوته، يدرك أن هذه هي النهاية، كأن كل شيء انحنى ليمرر كلمته الأخيرة:“كنتَ حفّار قبرٍ لإلهٍ مزيّف… لكنك لم ترَ النور بعد يا ولدي.” طلقة.صوتها لم يكن انفجاراً، بل وخزة معدنية حادّة، خرجت من كاتم الصوت كهمسة مميتة اخترقت الهواء وانتهى بها كل شيء. تراجع للخلف،ضغط على صدره، كأنّه يُمسك سراً يريد أن يحمله معه…ثم التفت نحوي.الدم تدفّق كنبعٍ انكسر، لكن يده لم تسقط. نظر إليّ، ومد يده الأخرى…نظرته لم تكن وداعاً، بل وصية تُسلَّم في اللحظة الأخيرة.“العصا…”قالها وكأنها الكلمة التي خلق من أجلها. الصرخة خرجت من فم أختي أولاً.الأنين من صدر أمي.أبي اندفع نحونا، سحبنا بقوة. جرجس لم يتحرك، شيئاً غير مرئيٍّ ثبّته بالأرض، شلّ كل خلية فيه.ثم صرخ، بصوتٍ شقّ الهواء وفتح فيه صدعاً لا يُرمم: “لقد فعلتها!”واندفع نحو الرجل، بعينين لا تحملان سوى قرارٍ لا عودة فيه.عيناه تقدحان، كأن شيئاً بداخله انكسر ولم يعد قابلاً للترميم. اختفى الكلام، تجمّد التفكير…ولم يبقَ سوى صوت الاصطدام.جسداهما تدافعا على الأرض، أقدامهما ترسم دوائر في التراب، والسلاح سقط. العصا في قبضتي.الهواء من خلفنا ممزق كجرح، وكأن شيئًا لا يُرى يركض خلف أنفاسنا، يريد أن يبتلعها قبل أن نلتقطها.قلبي يركض قبلي، لا ينتظر قدمي.اندفعنا نحو السيارة…فتحنا الأبواب كمن يقتحم النجاة.والدي خلف المقود، أدار المحرك بعجلة، وانطلقت السيارة كطلقة نجت من فوهة الموت. وفي اللحظة التي ابتعدنا فيها، التفتُّ…رأيت جسد جرجس ممددًا على الأرض، وسط بركة من الدماء، ساكنًا كأن الحياة قد غادرته.والرجل ما زال واقفًا فوقه، يمسك المسدس بيده،والدخان الخافت يتصاعد من فوهته. أمي صاحت بلهفة مرتجفة: “أسرع! بالله عليك أسرع!”صوتها انكسر في منتصف الجملة، ويدها تشدّ على المقعد كأنها تحاول اقتلاع الطريق تحتنا. خلفنا بقي الجبل، والعجوز، وجرجس، والقاتل المجهول…وبقي شيءٌ آخر لا يمكن دفنه أو قتله:أننا لم نعد نبحث عن حضارةٍ غابرة… بل عن الجزء الذي سُرق من أرواحنا.عن الحقيقة التي وُئدت بأيدٍ تدّعي الحماية.عن الذين غابوا بأجسادهم… لكن صراخهم لا يزال يرتدّ فينا. لقد تغيّرنا.لكننا لم نتغير من تلقاء أنفسنا… بل استُهدفنا.وفي داخل كلٍّ منّا بذرة لأصلٍ أُجبرنا على نسيانه. وهناك من لا يريد لنا أن نعود إلى ما كنّا عليه…لأن عودتنا تعني انكشاف الأكذوبة التي شيّدوا فوقها وجودهم، وتعني سقوط منظومةٍ لا تزدهر إلا حين يُنتزع وعي الإنسان. حضارة بُنيت على دفن الحضارات، وعلى قمع الوعي والتلاعب بالإدراك…تتعمّد طمس كل أثرٍ يمكن أن يهدّد وجودها، ولو كان مجرّد ذكرى تذكّرنا بما كنّا عليه أول مرة. فما نحن إلا أرواحٌ تمضي محمّلةً بالذاكرة…لا كعبء، بل كبوصلةٍ. لم نكن ضائعين أبداً
لم نكن ضائعين أبداً الفصل السادس: الكلمات التي سبقتنا May 23, 2025June 1, 2025 تراجعنا عن الجدار الحجري الذي توقفنا عنده في الممرّ الأول، لكن لم يكن فينا من… Read More
لم نكن ضائعين أبداً الفصل الثاني: كان يبحث عن شيء لا تحويه المقابر… أقدم من الملوك وأخفى من آثارهم May 13, 2025June 1, 2025 لم يكن بيننا وبين الأهرامات سوى سيارة أجرة.رحلة قصيرة… يمكن أن تنتهي في نصف ساعة.لكنّ… Read More
لم نكن ضائعين أبداً الفصل السابع: أوصياء آسيريا May 25, 2025June 1, 2025 لم يكن الجدار هو النهاية. ولا كانت اليد التي تمسك بالهرم المقلوب سوى إشارة أولى… Read More